الخطابي في المنفى من منظور روائي.. أنثروبولوجيا وتصوف وديكولونيالية - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كلما كانت العدة المعرفية للكاتب مركبة كلما انعكست على أعماله البحثية والإبداعية، والنموذج هنا الذي بين أيدينا يهمّ الأنثروبولوجي المغربي محمد المعزوز، الذي يحرر بين الفينة والأخرى في عالم الرواية، مع عمل حديث الإصدار تحت عنوان “أول النسيان”.

هذا محدد أولي يميز هذا العمل الروائي، أي التأثير الإيجابي للعدة المعرفية ــ مع الإشارة هنا إلى أن أمثال هؤلاء قلة في الساحة المغربية والعربية ــ موازاة مع محددات أخرى تغذي أحقية الحديث عن عمل نوعي، منها موضوعه وسبق الخوض فيه، أي تناول حقبة نفي عبد الكريم الخطابي نحو جزيرة لارينيون، لكن مع فارق أننا إزاء تناول روائي صرف، وليس تناولا بحثيا، ومعلوم كثرة الأعمال التي اشتغلت على هذا الموضوع، في مقالات ودراسات وكتب، عربية وأجنبية، ولكن لا نجد عملا روائيا بالعربية حول الموضوع نفسه، وهنا بالذات يكمن سبق محمد المعزوز.

الرواية الصادرة عن المركز الثقافي للكتاب (ط 1، 2025)، والموزعة على 303 صفحات، تسافر بالقارئ مع تنقلات الخطابي من أجدير بالريف (قرب مدينة الحسيمة) حتى جزيرة لارينيون، مرورا عبر فاس والدار البيضاء ومارسليا وجيبوتي ومدغشقر.

أياما قليلة بعد حطه الرحال بالجزيرة عاينت عائلة الخطابي امرأة في مقتبل العمر اسمها ماركريت، كانت ترفع بين يديها عاليا صورة لخطيبها بزي عسكري وهي تصيح أن عبد الكريم وكل الريفيين قتلة وجب فيهم القتل. “سرقتم مني رجلا أحببته، كاد أن يكون أبا لأولادي”. (ص 145). صراخ السيدة كان مناسبة لفتح حوار مطول بينها وبين الخطابي، مما جاء فيه: “ليست الحرب أقلّ عَضَلا من وحشية التزوير والبهتان كالتلف في خلايا العالم. أما المحبة فقد بترت جناحاها وظلت مقعدة تحت أنقاض الحروب. هنيئا لك بالمحبة التي تحملين. ابك وزيدي من بكائك، لعلّ دموعك تُطفئ نار القذائف واللّهيب المشتعل”. ويضيف الراوي: “نظرات الحقد التي كانت تحملها السيدة تجاه الخطابي تبددت وهي صورة حبيبها التي كانت ترفعها احتجاجا لتضمها إلى صدرها بشغف جارف، أخيرا استسلمت لبكاء مرير، فَهم من كان يتحلّق من حولها أنّ المرأة أدركت صدقه ونقاء طويته”. (ص 146)

دموع الخطابي كانت حاضرة بين الفينة والأخرى في العمل، لأن الأحداث هنا لا تتناول حقبة المقاومة ضد الاستعمار، ومعارك الكر والفر، وإنما تتناول محطة مفصلية في مساره، عنوانها الاستسلام، ومنها هذا المشهد المؤثر الذي يصف فيه الراوي توديع بعض الساكنة للخطابي: “ما إن اعتلى حصانه حتى اندفع المحاربون أمامه يتبعهم الأهالي وهم يقبلون ركابه وجلبابه؛ كُلّما خطا حصانه بضع خطوات ارتمى كثير منهم على الأرض يذرفون دموعا حرّى، تعلّقا وتحرقا من ألم الفراق، وقف ابن عبد الكريم يرقبهم ماسكا دمعه بقوة. أخذ ينظر إليهم واحدا واحدا ولم يقدر على مكابدة نفسه في منع دمعة فريدة سالت من عينه اليمنى”. (ص 33).

أسلوب السرد في الرواية يمارس ما يشبه الإغراء بالنسبة للقراء، حتى في المشاهد التي قد تبدو ثانوية أو لا تستحق وقفات تأمل وإعادة قراءة، ومنها مشهد وداع الخطابي لحصانه “مسعود”: “تململ الحصان يهش رأسه وكأنه يريد أن يقول شيئا، طويلا حتى بدا صوته أشبه بتقاسيم عود تُوقعها أصابع الحشا المحروق؛ تأمّل ابن عبد الكريم عينيه الذابلتين ففرّت من فمه بضع كلمات: ألديك قدرة لتبكي يا مسعود؟ ابك! كم هو آس بكاؤك وفاجع! تعجب للوقت الدائر في بؤبؤ الزمن لما تذكر أن حصانه الذي اشتراه له والده من ‘أجزنّاية’ يهجره فيها مكرها بعد عمر طويل شاركه فيه كلّ حروبه. عانقه بكلتا يديه. ارتفع صهيل مسعود وكأنّه نائحة لا تتوقف عن النّواح. لما شعر الكولونيل المرافق بتكدّر حال ابن عبد الكريم وعده بإكرام حصانه مناديا على أحد الجنود باقتياده وإنزاله منزلا حسنا”. (ص 37).

الحسرة، الخيانة، المقارنات بين أحوال الأمس في المغرب وأحوال جزيرة المنفى، هذه بعض المحطات التي كانت حاضرة بشكل جلي في العمل. ولو كان هذا العمل الروائي موزعا على فصول لكان أحدها يحمل بالضرورة عنوان الخيانة، بل نجدها حتى في حالة قائد سفينة تعرّف عليه الخطابي، و”كان من أصول هندية، اسمه سلمان، له القدرة على الكلام باللغة العربية الفصحى وإيراد أقوال الفقهاء وشعراء العرب. استغرب الخطابي لأمره وراح يسأله كيف تعلم اللغة العربية وحفظ أشعارها ومأثورات الفقهاء والمتصوّفة. سكت سلمان، لحظة، ثمّ أجاب بأنّه من أحفاد تيبو السلطان الذي تولى سلطنة ميسور في الهند، وبأنّ جدّته هي خديجة زمان بيغوم، ثالث نساء تيبو؛ فرّ جدّه الخامس إلى الجزيرة اتقاء بطش الإنجليز والهندوس الذين لم يغفروا لتيبو ما ألحق بهم من هزائم بليغة ومتكرّرة خلال ثلاثة عقود، إلى أن قتل في واقعة حصن سيرينجاباتام عن طريق الخيانة” (ص 257).

أحصينا عدة محطات تهم معضلة الخيانة كما جاءت في الرواية، سواء في أولى محطات الاستسلام والانتقال بالتالي من أجدير نحو الدار البيضاء، مرورا عبر تازة وفاس تحت حراسة العسكر الفرنسي؛ أو في إقامة المنفى، وهي إقامات في الواقع، لأنها مرت من مقامات موزعة على ثنائية التأزم والرفاهية، بما يحيلنا هنا على أجزاء الحسرة التي تتكرر كثيرا في العمل أيضا: “كنت أمير الحرب في الريف، ولم أكن طامعا إلا في العدالة والحرية، أما الآن فأنا هنا رجل منفي أسير، عاجز عن فعل أي شيء” (ص 207). وفي مقام آخر نقرأ هذه الإشارة: “لم أستسلم خوفا أو رغبة في الحياة، وإنما حقنا لدماء شعبي الذي كادت أن تبيده الغازات السامة” (ص 198). ومعلوم أن موضوع أو ملف الغازات السامة يوجد في مقدمة أسباب ارتفاع نسبة الإصابة بمرض السرطان في جهة الريف، بما يفسر تأسيس عدة جمعيات اشتغلت على الموضوع، لعل أهمها “جمعية ضحايا الغازات السامة في الريف” سنة 1999، فالأحرى صدور عدة كتب لباحثين أوروبيين على الخصوص، لعل أشهرها كتاب ألفه سباستيان بالفور، وهو أستاذ الدراسات الإسبانية المعاصرة بمدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية بلندن، تحت عنوان “العناق القاتل: من حرب الريف إلى الحرب الأهلية الإسبانية” (صدر سنة 2016، وترجمه للعربية عبد المجيد عزوزي).

من معالم الحسرة أيضا تلك المقارنة التي يعقدها الخطابي بين مقام المقاوم ومقام التاجر [“هل أراد القدر لي أن ينزع عني جلد المحارب ويلبسني جبة التاجر؟” ص 272]، حيث “تبين له أن استغلال هذه الأرض بمعرفته، وكان ذا عين في الزراعة وأسرار النبات، سيكون ذا مكسبة يخفف عنه عبء الإنفاق، خاصة أن عدد المواليد في العائلة قد تزايد” (ص 203)، وتحقق فعلا ذلك التحول عبر فتحه محلا تجاريا في سانت دوني. تحسنت الأحوال بداية، لكن مع مرور السنوات، “لم تعد مداخيل المتجر تكفي لسد حاجيات عائلته والمرافقين له. توسعت العائلة وكبر الأطفال وكثرة المطالب” (ص 263). ومن تبعات هذه الأزمة المالية أنها ستطال عائلة الخطابي، كما يلخصها هذا المقطع: “أوقفت [فرنسا] الإمدادات المالية [المخصصة للجزيرة] باستثناء رواتب الموظفين والجيش وجهاز الأمن. ظلت أحداث السرقات والعنف حديث الناس وهاجسهم الذي يؤرّق المضاجع. ضرب الكساد متجر العائلة وأفلس بعد تعرّضه للسّرقة ليلا. عاشت عائلة الخطابي حالة تشبه الفقر حتّى إنّها لم تكن تأكل اللحم إلا مرة واحدة في كلّ أسبوعين، وبات الأولاد والبنات يشتكون من الإفراط في تناول القطاني والمعجنات” (ص 271).

مساحة لا بأس بها من العمل كانت أشبه بسفر مع الوجه الوعظي لشخصية الخطابي، خاصة في الربع الأخير من الرواية، بل إن من يقرأ ما جاء في عدة صفحات قد يعتقد أن الأمر يتعلق بشخصية دينية، وليس بزعيم مقاومة ضد الاستعمار الإسباني سابقا أو تاجر مغربي يقيم في الجزيرة حينها. والحال أن ما تضمنته تلك الوقفات يزكي ميزة اشتهر بها أهل التدين المغربي خلال القرون الماضية. وليس صدفة أن انتشار الإسلام من المغرب الأقصى حتى السودان الغربية، أو السنغال وما جاورها، كان أحد محدداته العمل الصوفي المغربي أو معاملة التجار المغاربة أو كلاهما معا، والإحالة هنا على الممارسة الدينية الوسطية عند المغاربة، التي كانت من أسباب اعتناق الإسلام في الساحة الإفريقية، وهي الممارسة نفسها التي جعلت بعض مواطني جزيرة لارينيون يعتنقون الإسلام، تأثرا بمعاملة الخطابي التاجر: “كثير من الهنود والباكستانيين ومسيحيي الجزيرة اعتنقوا الإسلام اقتناعا بحجته وتأثرا بشخصه؛ أحبه كل من جالسه أو خالطه، كانوا يقصدونه للفصل في قضاياهم الخاصة والعامة؛ فكم من عداوات بينهم فصل فيها ليبدلها صلحا ومحبة، وكم من حالات طلاق أعاد فيها المطلقين إلى المراجعة واستعادة أواصر المودة” (ص 218). وفي مقام آخر نقرأ أن الخطابي “ظل في لقائه بالناس، مسلمين وغيرهم من أتباع ديانات أخرى، ينأى بأسلوب حديثه عن لغة الحرب والسياسية، جانحا إلى أسلوب الفقيه التقي والداعية” (ص 222)، أو الواعظ حسب الاصطلاح المغربي.

ليس هذا وحسب، فقد اشتهر المغاربة طيلة قرون بالاحتفال بالمولد النبوي، سواء كانوا في الداخل أو في الخارج، وهذا ما ينطبق على إقامة عائلة الخطابي أيضا في المنفى: “في ذكرى مولود النبي محمد صلوات الله عليه ذبح والد ابن عبد الكريم ثلاثة خراف، وأمر بتحضير عشاء يوم الذكرى تتخلّله تلاوة جماعية للقرآن وشرح آياته” [..] “كان الرثاء والشفقة ينقشعان في عيونهم وهم يُنصتون إلى القرآن، ولو أنّ أكثرهم لم يكن يفهم من معانيه شيئا. لذلك كان الوالد بعد انتهاء كل سورة يعمد إلى الشرح وتبسيط المعنى” (ص 174).

من تبعات ما افتتحنا به هذه القراءة أنه في الظاهر هذا عمل روائي، لكن مضامينه تتضمن إشارات ذات صلة بحقول التاريخ، الأنثروبولوجيا، الدراسات الديكولونيالية، التصوف، وهذا باب من أبواب الإسلاميات، وحقول أخرى، وبيان ذلك كالتالي:

ــ التاريخ حاضر بالضرورة في العمل، ما دام يهم محطات جرت في حقبة زمنية سابقة، وذات صلة بشخصية مغربية من الريف، اشتهرت بالمقاومة والاستعمار، مع فارق تميز العمل بتناول تلك الأحداث بأعين روائية، جعلت المقاربة مغايرة في القراءة والتفاعل مقارنة مع الأعمال البحثية، بصرف النظر عن مرجعية المعنيين بتلك الدراسات والأبحاث.

ــ لأننا في حقبة ما بعد الاستعمار، كما اشتغل عليها المهدي المنجرة وفرانز فانون وغياتري سبيفاك ضمن لائحة عريضة من الأسماء العربية والغربية، فطبيعي أن يكون العمل يندرج أيضا في سياق الأعمال الديكولونيالية، سواء كان المؤلف واعيا بذلك أم لا، وحتى لو افترضنا أنه لم يستحضر هذا المحدد أثناء تحرير الرواية فإن العديد من المضامين تعتبر مادة خاما لمزيد كد بحثي في هذا الحقل الذي نعاني خصاصا كبيرا فيه. هناك صحوة نعاينها منذ سنوات في الساحة المغاربية، وخاصة في المغرب وتونس: في المغرب مع أعمال نادية عطية، وصدر لها على الخصوص في هذا السياق كتاب “شهرزاد ترحل إلى الأرض، مدخل إلى إيكولوجيا الفقراء”. (2023)، وفي تونس نذكر على الخصوص أحدث أعمال فتحي المسكيني وعنوانه “هذه الذات ليست لك: صدوع ديكولونيالية” (2025).

ــ التصوف حاضر أيضا، وفي عدة محطات، خاصة مع الثنائي ابن عربي والنفري، وبدرجة أقل الحلاج، بل نقرأ إحالات على ابن عربي والحلاج في الصفحة نفسها (219)، أو استحضار هذه الأعلام في سياق دفاع الخطابي عن مكانة المرأة، وهذا تحصيل حاصل عند الباحثين في الإسلاميات، بمن فيهم فئة من المستشرقين، من التيار المنصف للتراث الإسلامي، أقصد تميز الخطاب الصوفي في الدفاع عن المرأة مقارنة مع بعض أنماط التدين الإسلامي في الساحة المحلية والعربية والإسلامية.

يروي المؤلف أن الخطابي “أصبح في السنوات الأخيرة مهووسا بكلام النفري، أغلب أجوبته عن أسئلة ذويه وأصدقائه” (ص 290). وليس صدفة أن يستشهد الخطابي ببعض أقوال النفري في حديثه مع تاجر هندي اسمه فارس، فقد زوجته التي انتحرت، وكان أحد أسباب طرقها باب الانتحار، حتى إن التاجر المعني سيتأثر لاحقا بأدبيات التصوف إلى درجة الزهد، قبل أن يعترض عليه الخطابي، و”نبهه ألا ينسى نصيبه من الدنيا، فالإسلام دين يوازي بين الروح والجسد ولا مكان فيه للرهبانية”. (ص 222).

ــ نأتي للإشارات التي تهم حقل الأنثروبولوجيا، وما أكثرها في الرواية، بحكم تخصص محررها، نذكر منها إشارة واحدة من باب الاستئناس، وتهم واقعة غناء الخادمة مسعودة، في سابقة هناك، لأن المناسبة شرط، وهي مناسبة زفاف: “لم تخف [مسعودة] سعادتها لاقتران موح بريفيير، كانت تعزه لعطفه الكبير عليها وهو يأتيها من المتجر بما كانت ترغب فيه من حاجاتها، كالصابون المصنوع من الأعشاب وعطر الزهور المُقطّر، كان عبد السّلام يُكبر فيه سعيه ويشجعه عليه كلّما عاودت مسعودة طلبها. في اليوم الذي حدث فيه زواج أهدته قطعة نقدية ذهبية صغيرة لم تكن تملك غيرها وكانت تعتبرها مُدّخرا تتقي به سوء المنقلب. لم يسبق لها أن غنّت ولو بمفردها، ولكن ليلة زفاف موح، وكانت النّساء يُهَدهدن أغنيات من زمن الرّيف القديم تمتزج بالمديح، أطلقت صوتها هادئا بموال تتخلّله نبرات إفريقية بكلمات أمازيغية تحكي عن نهاية عذاب امرأة مشردة. اندهشت لصوتها النساء، واستغربن لجرأتها، لأنهن اعتدن عليها تفرط في الخجل وقلة الكلام، ولا تبادر بالحديث أبدا” (ص 287).

ليس صدفة أن نقرأ أعمالا روائية لعبد الله العروي وسعيد بن سعيد العلوي وعبد الإله بلقزيز ضمن أسماء أخرى، مع أنها اشتهرت أساسا في حقول الفلسفة أو التاريخ أو الإسلاميات.. إلخ، والأمر نفسه ينطبق على هذا العمل، لاعتبارات لا يعلمها إلا أصحابها، لكن من حق القارئ أن يقترح مفاتيح نظرية لقراءة هذه الأسباب، أقلها العمل بقاعدة “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق