قرن بعد "الغازات السامة" .. غموضٌ يلفّ واقع "السرطان" واعتذار الإسبان - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

وراء أشواكٍ برية تعيق الرؤية والحركة تختبئ ضفة من بحيرة “مارتشيكا” صارت مصبا للنفايات السائلة، لا تدل علامات التشوير على أنها ضمت قبل مائة سنة ميناء تشهد معالمه على جريمة مؤلمة، إذ قصفت انطلاقا منه القوات الاستعمارية الإسبانية الساكنة المحلية بأسلحة محرمة دوليا.

واليوم طُوي قرن منذ قصفت طائرات إسبانية شمال المغرب، وخاصة منطقتي الريف وجبالة، بأسلحة محرمة دوليا، لكن مازالت قضية “الكيماوي الإسباني” حيّة في ذاكرة البلاد، ومازالت تترافع هيئات مدنية مغربية وأجنبية من أجل الاعتراف والتعويض، فيما يربط باحثون ارتفاعَ حالات السرطان في منطقة الريف بتعرضها لـ”الغازات السامة” أواسط عشرينيات القرن الماضي.

ذكرى الجريمة

في الناظور، إحدى مناطق ريف البلاد التي تعرضت للقصف بعد خسارة الجيش الإسباني أمام قوات المقاومة بالمنطقة سنة 1921، تقبع ثلاثة مواقع استعملها الإسبان في تخزين أخطر الغازات التي قضّت مضجع “مقاومة بن عبد الكريم الخطابي” بالمنطقة والمتحالفين معها: “غاز الخردل”.

في رحلة البحث عما تبقى من “الغازات السامة” وقفت هسبريس على معلم من معالم الجريمة قرب مدينة بني نصر، لا علامة تشوير تدل عليه، إلا ما تبقى من صورٍ تاريخية، ومعبر حجارة وجَد طريقه في البحيرة، لتيسير هبوط الطائرات البرمائية الإسبانية القادمة من إسبانيا، أو مدينة مليلية السليبة التي مازالت تتبع اليوم للسلطات الإسبانية، في أرض إفريقية.

وفي تصريح للجريدة الإلكترونية استقته على ضفاف بحيرة “مارتشيكا”، المحاذية للناظور وبني نصار الحدودية، قال الباحث في تاريخ الريف اليزيد الدريوش إن هذه “الأيقونة الطبيعية” كانت في عشرينيات القرن العشرين “لعنة على المنطقة؛ حيث خرجت منها الطائرات الإسبانية البرمائية لقصف المقاومين بالأسلحة الكيماوية المحرمة، كما خرجت الطائرات من ميناء قريب آخر هو ميناء أطاليون، ثم ميناء الناظور المعروف قديما بتاويمة”.

وتابع الدريوش: “من هنا كان ينطلق الإسبان بطائراتهم البرمائية من أجل قصف جيوب المقاومة والمداشر والأسواق بالغازات السامة المحرمة دوليا، وهذا من الموانئ التي خلقت لسنوات كابوسا ورعبا عند الساكنة، وهو من بين أسباب استسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي، بسبب فتك السلاح الذي كان يأتي من ألمانيا، إلى مليلية، ويفرّغ هنا، تفاديا للإضرار بالضحايا المدنيين الإسبان، ودون اهتمام بالمغاربة، وخاصة القاطنين بالريف”.

وماذا بعد مرور مائة سنة؟ يجيب الباحث في التاريخ: “محجز السيارات القائم هذا حلّ محلّ مكان المعمل؛ ونفيت بالتالي معالم الجريمة الإسبانية التاريخية في حق المغاربة، وخاصة ثوار الريف وساكنة القرى ومرتادي الأسواق، الذين قتلهم القصف، واضطر الأحياء منهم إلى تنظيم أسواق بالليل وتغيير أماكن سكنهم”.

تاريخ مؤلم

رغم مرور مائة سنة على قصف شمال المغرب بأسلحة محرمة دوليا من طرف الاستعمار الإسباني السابق إلا أن الباحثين في التاريخ ينبهون إلى أن الجريمة لم تبدأ الانكشاف إلا قبل ثلاثة عقود.

على بعد دقائق من وقوع حدث “إنزال الحسيمة” التاريخي أوضح لهسبريس محمد الداودي، أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن “موضوع الحرب الكيماوية في الريف وفي جبالة ظهر للعلن مع كتاب مهم كتبه كاتبان ألمانيان، هما رودبيرت كولز ورولف ديتر مولر، وعنوانه ‘غازات سامة ضد عبد الكريم’ سنة 1996، وصدرت نسخة مترجمة ناقصة له بالعربية سنة 2000، ولم تصدر النسخة المترجمة الكاملة إلا منذ سنتين”.

شكيب الخياري، رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، استحضر بدوره في حواره مع الجريدة الإلكترونية هذا المعطى، مسجلا أن “الاهتمام بملف الغازات السامة ضد الريف جاء بعد صدور كتابٍ أصدره باحثان ألمانيان، فضحا تورط ألمانيا في صناعة الغازات السامة وبيعها للإسبان الذين قصف جيشهم الريف في فترة الحرب”، مردفا: “هكذا انتشرت فكرة حرب الغازات السامة وآثارها السلبية، وأنشئت جمعية من طرف مجموعة من النشطاء في الريف للدفاع عن ضحايا الغازات، ثم تطور الملف مع الزمن إلى أن وصل إلى قرع أبواب البرلمان الإسباني، لكن الأسف دون ولوج القبة من أجل استصدار قانون الاعتذار للمغرب عن القصف بالغازات السامة”.

تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن “جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة” التي كانت نشطة مطلع الألفية الثالثة كانت تعرّف مطالبها بأنها “الضغط على الحكومة المغربية لدفع صنوتها الإسبانية إلى الاعتراف بجرائمها في حق سكان الريف، وتعويض ضحايا الغازات السامة”، عبر “تعويض جماعي، ليس فرديا وماليا، بل من خلال اعتذار إسبانيا، وإطلاق مشاريع تنموية تنتشل الريف من هشاشته الاقتصادية والاجتماعية”. ووصلت مطالب جمعياتٍ مغربية مهتمة بهذا الملف قمّة تأثيرها عندما قدم سنة 2004 النائب الإسباني جوان تاردا مشروع قانون يروم “الاعتراف بالهجمات”، مع المطالبة بـ”التحقيقات وتعويض الضحايا”، لكن البرلمان الإسباني رفض مناقشته.

ولم يستند النقاش المدني المغربي إلى مرجع الباحثين الألمانيين “غازات سامة ضد عبد الكريم” فقط، بل يقول الأستاذ الباحث محمد الداودي إنه “رغم كونه من أهم الكتب في هذا الموضوع، لتركيزه على قرار إسبانيا استعمال الأسلحة الكيماوية ضد المنطقة كرد فعل على ما وقع في معركة أنوال، ورصده الدور الألماني في تزويد إسبانيا بالأسلحة الكيماوية، إلا أنه مطلع ‘سنوات الألفين’ صدر كتابان، أولهما للمؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياغا، عنونته بـ’مغاربة في خدمة فرانكو’، حول المغاربة المشاركين في الحرب الأهلية الإسبانية، وضمّنَته فصلا خاصا عن الحرب الكيماوية، كما صدر كتاب ‘العناق المميت’ للمؤرخ البريطاني سباستيان بلفور، الذي ترجم بعد ذلك للعربية، وخصّص فصلا كاملا لإعادة تركيب حدث الحرب الكيماوية”.

واستدرك مترجم مذكرات “أمريكي بين الريفيين” لمؤلفه فنسنت شيين أن أهمية هذه المراجع الثلاثة “لا تنفي وجود إشارات إلى الحرب الكيماوية قبل صدورها، لكنها كانت إشارات عرضية، في سير ذاتية وروايات، مثل إدالغو دي ثيسنيروس، الذي كتب عن ندمه الشديد لقصف المنطقة بطائرته فرنسية الصنع بالأسلحة الكيماوية”.

ما العلاقة بين القصف والسرطان؟

كثيرا ما تربط النقاشات العمومية المدنية والتغطيات الإعلامية وضع السرطان بشمال المغرب، وخاصة منطقة الريف، بـ”الغازات السامة الإسبانية”، وهو ما يؤكد عليه الباحث اليزيد الدريوش، الذي يربط “ارتفاع أعداد المصابين بالسرطان باستعمال السلطات الاستعمارية الإسبانية جميع أنواع الأسلحة، بما فيها الغازات السامة، مع حلفائها الذين كانوا بمثابة ‘حلف أطلسي’ سابق، يتخوف من امتداد المقاومة إلى مستعمرات أخرى، وهو ما مسّ لسنوات مجموعة بسيطة من المقاومين، كان حافزها الأول الدفاع عن الوطن والأرض”.

آثارُ هذا القصف تستمر، وفق الباحث في التاريخ، “ليس فقط في جينات أحفاد من قصفتهم الغازات السامة، بل أيضا في أراضٍ بالمنطقة صارت ميتة”، مضيفا: “يورد المؤرخ مصطفى المرون في كتابه ‘التاريخ السري للحرب الكيمياوية ضد منطقة الريف وجبالة’ دلائل من بينها تقرير طبي لمنظمة طبية تابعة للأمم المتحدة يفيد بأن السرطان يمكن أن يكون نتيجة مباشرة للقصف الكيماوي؛ كما يؤكد ذلك مؤرخون لحرب الريف مثل سباستيان بلفور. كما أن أعداد المصابين بالسرطان في الشمال هي الأكثر بين المصابين من باقي أنحاء المغرب”.

لكن هذه الفرضية المنتشرة لا تلقى إجماعا، فقد عبرت وزارة الصحة، على لسان مسؤولها الأول سنة 2015 البروفيسور الحسين الوردي، عن أنه “لا توجد أي دراسة علمية تؤكد ارتفاع عدد الإصابات بالسرطان في الريف مقارنة مع مناطق أخرى في المغرب”، مردفا وفق ما سبق أن نقلته هسبريس قبل عشر سنوات خلال لقاء مفتوح بعمالة إقليم الناظور: “الكلام ليس نهائيا في الموضوع، ولا يعني نفي ما يروج عن كون الغازات السامة التي قصفت بها المنطقة من مسببات ارتفاع عدد المصابين بالسرطان”.

ومن بين ما كشفه الوردي آنذاك عمل لجنة يرأسها شخصيا على “إنجاز مسح وطني حول المرض بالمغرب، وسيتم إعلان نتائجه فور الانتهاء منه”.

بعد هذا الإعلان بسنتين، في شهر يوليوز من سنة 2017، قالت وزارة الصحة إنها تشتغل على دراسة حول “غاز الخردل بالريف”. وأوردت وكالة الأنباء الفرنسية آنذاك تصريحا باللغة الفرنسية على لسان وزير الصحة الأسبق صاغته كالآتي: “العميد السابق لكلية للطب، وهو بدوره من الحسيمة، السيد الوردي، أكد أن قسمه أطلق دراسة هي الأولى من نوعها حول هذا السؤال، وأن النتائج سوف تعلن خلال بضع عشرات من الأيام”.

وحاولت هسبريس متابعة نتائج الموضوع، وتواصلت مع مصدر من وزارة الصحة، أجاب بعد البحث بقوله: “للأسف لم أستطع الوصول إلى أي نتيجة بخصوص هذا الموضوع”.

وتواصلت جريدة هسبريس كذلك مع وزير الصحة الأسبق الحسين الوردي لإجراء حوار حول “حالات السرطان بالجهة الشرقية”، لمتابعة “التقرير الذي أعددتموه في فترة ترؤس وزارة الصحة حول الغازات السامة بالمنطقة”، فأجاب بقوله: “للأسف أوجد خارج أرض الوطن”، ثم لم يجب بعد سؤال متابعةٍ هو: “هل نُشرت آنذاك نتائج التقرير؟”.

الرأي والعلم

لم تكن وزارة الصحة المسائل الوحيد للفرضية الشائعة مدنيا وإعلاميا، رغم أن تصريحات الحسين الوردي قوّت نقاشات ساءلت فرضيات “ارتفاع حالات السرطان مقارنة بباقي أنحاء البلاد”، و”الربط المباشر بين السرطان والقصف الكيماوي الإسباني”.

وفي تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية قال الطيب حمضي، طبيب وباحث في السياسات الصحية، إنه لم يطلع على دراسة تقول إن شمال المغرب فيه حالات إصابة أكثر بالسرطان، وزاد: “الوزير الأسبق الحسين الوردي قال الأمر نفسه، وما نحتاجه هو دراسة للموضوع؛ لأن هذا يربط بحرب الريف (…) وبدون البحث العلمي فإن النفي أو التأكيد مغامرتان؛ لأن هناك متغيرات إحصائية لا يمكن ضبطها إلا بالبحث، مثل قول إن السرطان مرتفع في الأحياء الراقية، بينما الواقع أن التشخيص المستمر مرتفع في الأحياء الغنية، ما يعني اكتشاف حالات أكثر من باقي الأحياء، على سبيل المثال”.

وفي لقاء لهسبريس مع نمير الشاوش، رئيس وحدة العلاجات بمركز الأنكولوجيا (علم السرطان) بالناظور التابع لوزارة الصحة، قال لهسبريس: “لا يوجد جواب علمي بَعد عن السؤال، لكن ربما توجد مشكلة حرب الريف، والخردلُ الممنوع دوليا، الذي قصفت به المنطقة، قد يكون عاملا أساسيا في الجينات والتربة، لكن (حسم) هذا الموضوع في حاجة إلى دراسات وأيام دراسية وأبحاث علمية”.

محمد الداودي، الأستاذ الباحث بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، صرح بدوره بأن “العلاقة بين استعمال الأسلحة الكيماوية والسرطان اهتمت بها أبحاث كثيرة، من بينها بحث قام به المعهد الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات (…)”، وزاد: “وتوجد أبحاث حول الأشخاص الذين تعرضوا لغاز الخردل في العقود الثلاثة الأخيرة، مثل السكان الأكراد في العراق بحلبجة. كما أن هناك أبحاثا مستمرة حول الجنود الإيرانيين في حرب إيران العراق الذين تعرضوا للقصف الكيماوي. ويمكن تتبع التأثيرات عبر هذه الدراسات حول الساكنتين”.

ثم استدرك المصرح قائلا: “لكن لا يوجد دليل علمي مؤكد وواضح عن علاقة سببية مباشرة بين الأسلحة الكيماوية بالريف وحالات السرطان، وهذا لا ينفي الفرضية، لأن هناك مؤشرات قوية في هذا الاتجاه. إلا أن المشكل المطروح في الموضوع هو هل يمكن تتبع أثر هذا الغاز في المصابين به، والأجيال اللاحقة لهم؟ وفي حالة الريف هذا غير ممكن أو صعب جدا”.

“إذن، الحالتان الموجودتان هما أساسا في العراق وإيران، مع حالات أخرى في اليابان بعد قصف الولايات المتحدة الأمريكية لها. لكننا لا نتوفر على الدليل الرياضي المباشر الذي يربط بين القصف الكيماوي وبين السرطان، دون أن يعني هذا عدم قوة فرضية العلاقة”.

الناشط الحقوقي شكيب الخياري، الذي كان جزءا من النقاشات المدنية حول “الغازات السامة والسرطان” قبل أزيد من عشرين سنة، صرح لهسبريس أيضا بأنه “لا توجد أي دراسات تثبت العلاقة السببية الموجودة بين الضرب بالغازات في عشرينيات القرن العشرين وانتشار السرطان في منطقة الريف حاليا”، مردفا: “ثم لا توجد دراسات تؤكد مدى انتشار السرطان في المنطقة، وهل هي فعلا الأولى مغربيا من حيث هذا الانتشار”، وزاد: “هل المسبب الوحيد الممكن هو الغازات السامة، أم إن هناك أسبابا أخرى ممكنة أيضا، من ضمنها استهلاك المواد المجلوبة من إسبانيا نفسها؟”، في إشارة إلى السلع الغذائية المهربة من جيب مليلية المحتل.

ماذا عن واقع السرطان؟

هل يغيّر عدم الإثبات العلمي الحاسم لارتباط قصف الريف وجبالة بالأسلحة الكيماوية في عهد الاستعمار الإسباني واقع المصابين بالسرطان شمال المغرب؟ يجيب محمد الداودي، أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، بأن من أهم ما تطرحه مناقشة ملف السرطان “ضرورة تخفيف المسؤولين من المعاناة الاجتماعية والاقتصادية لمرضى السرطان في المنطقة”، نظرا لـ”صعوبة التطبيب”.

موضوع صعوبة التطبيب هذا أثيرٌ في النقاش العمومي بالمملكة، ويشرحه رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان شكيب الخياري بقوله إنه “قبل 25 سنة كان ينبغي على الأشخاص الذين يلجون إلى العلاج الانتقال إلى العاصمة الرباط، ثم كان على مرضى السرطان بالناظور ونواحيها الانتقال على مستوى الجهة الشرقية إلى وجدة”، وتابع: “بالنسبة للحسيمة ونواحيها كان على مرضى السرطان الانتقال إلى طنجة. وقد ظلت الناظور والحسيمة مفتقرتين لهذه البنيات، إلا مؤخرا، حيث أحدثت بهما وحدات بسيطة جدا لمعالجة هذه الأمراض”.

وفي إطار تتبع واقع المؤسسات الصحية العمومية وطنيا قارنت هسبريس بين معطيات توزيع المراكز الطبية المتخصصة في السرطان بين ما قبل سنة 2010 وسنة 2025 الراهنة.

وعبر بيانات “مؤسسة للا سلمى لمحاربة داء السرطان”، التي أطلقت مع وزارة الصحة “المخطط الوطني للوقاية ومراقبة السرطان” سنة 2010، يتضح أن الوحدات الصحية المتخصصة في السرطان تركزت قبل خمسة عشرة سنة في العاصمة بالرباط، وقربها مثل مدينة تمارة التي تحاذيها، والدار البيضاء التي تبعد عنها بـ 87 كيلومترا، ومكناس التي تبعد عنها بـ 145 كيلومترا، ثم الرشيدية بمنطقة الجنوب الشرقي للبلاد التي تبعد بما يزيد عن 450 كيلومترا.

أما أحدث المؤسسات الطبية العمومية المتخصصة في السرطان اليوم فتوجد إضافة إلى المدن المذكورة بكل من أكادير (546 كيلومترا عن العاصمة)، الحسيمة (461)، مراكش (325)، العيون (1125)، فاس (204)، طنجة (247)، بني ملال (303)، وجدة (523)، والناظور التي تبعد عن الرباط بأزيد من 500 كيلومتر.

داخل مركز السرطان

هسبريس زارت “مركز الأنكولوجيا” الجديد بالناظور المتخصص في أمراض السرطان، وحاورت رئيس وحدة علاجاته، نمير الشاوش، الذي قال: “لقد دشن المركز في 6 أكتوبر سنة 2022 (…) واليوم نستقبل كلَّ شهر 20 حالة جديدة، ونعالج سرطانات الثدي والرئة وسرطانات أخرى… ما يسهم في تقريب العلاج من المرضى الذين كانوا قبل ذلك يضطرون إلى السفر دائما إلى وجدة، وقبلها الرباط”.

بنزكري نادية، دكتورة متخصصة في العلاجات التلطيفية بـ”مركز الأنكولوجيا”، ذكرت بدورها لهسبريس أن المصلحة التي تشرف عليها تهتم بـ”تخفيف معاناة الألم الشديد بسبب الأمراض المصاحبة للمصابين بالأورام السرطانية (…) عبر مواكبة المريض، ومراقبة تغذيته، والأعراض الناتجة عن تفاقم المرض أو مداواته (…) لأن الرفع من مناعة المريض يساعد في علاج الورم السرطاني، ويزيد فعالية التداوي كثيرا”.

ومن بين ما يتوفر عليه المركز الجديد برنامج انطلق قبل أقل من سنة (دجنبر 2024)، “ينتقل في يوم من الأسبوع إلى منازل المرضى في حالات صعبة، الذين يحتاجون مواكبة خاصة للنوم، والتغذية، وعلاج الألم”، وفق الطبيبة المتخصصة.

إكرام خرماش، دكتورة أخصائية في أمراض الأورام الطبية بالمستشفى الجهوي لأمراض السرطان بالناظور، وضحت بدورها لهسبريس أن اختصاص “مركز الأنكولوجيا بالناظور” هو “علاج الأورام الصلبة التي تصيب الأعضاء، مثل الثدي، والقولون، والمعدة، والمثانة، والبروستات…”، ما يعني أنه “لا يعالج أمراض سرطان الدم، التي من اختصاص أطباء آخرين”.

وتابعت المتحدثة: “كأطباء للأنكولوجيا نلعب أدوار تشخيص المرض، من خلال نتائج تحاليل الدم، والأشعة، وأخذ العينات التي تحدد لنا نوع المرض، حتى نعرف ما يحتاجه المريض، من علاج كيماوي أو مناعاتي أو علاج موجَّه. ونأخذ بعين الاعتبار الحالة الصحية للمريض (…) لوضع خطة علاجية تناسب عمره ووضعه الصحي، مع التنسيق رفقة أطباء آخرين مثل أطباء الجراحة، وأطباء العلاج الكيماوي”.

ومع أهمية مثل هذا المركز في “التوعية، خاصة في ما يتعلق بأمراض مثل سرطانَي الثدي والرحم، من أجل الكشف المبكر، حتى تكون فعالية العلاج أكبر”، وفي “تسهيل الأمور على المريض، مثل التنقل، حتى لا يضطر للتنقل إلى وجدة أو فاس أو تازة أو الرباط للعلاج، خاصة أن علاجات مثل العلاج الكيميائي تبدأ أعراضها الجانبية بعد انتهاء الحصة”، إلا أنه وفق الأخصائية فإن “المراكز التي لا تكون كبرى، وتكون تابعة للمراكز الكبرى، يكون لديها خصاص في الدواء الذي نستقبله من وجدة”، مردفة: “صحيح أن العلاج اقترب من المريض، لكن هناك أدوية نحتاجها ولا تكون متوفرة، فيضطر المريض لشرائها (…) ما قد يؤدي إلى تدهور حالته النفسية، فنراه متحمسا بأمل العلاج، لكن عندما تكون حالته المادية ضعيفة ونطلب منه شراء الأدوية يصير مدار تفكيره هو من أين سيأتي بأموال شراء الدواء، وهو ما قد يؤثر على استجابته للعلاج”.
رئيس وحدة العلاجات بالمركز سجّل بدوره في حديث لهسبريس أنه “مع أهمية تقريب العلاج من المريض، وتحقيق إضافة نوعية في إقليم الناظور، مثل وحدة العلاجات المتنقّلة لمنازل المرضى، مازال المركز الجديد يحتاج إلى علاج سرطان الدم”، ويأمل توفير “مصحة للأشعة، حتى نوفّر للمريض عرضا علاجيا متكاملا لا يضطره إلى الانتقال إلى مدينة أخرى”.

مبادراتٌ مدنية

شهادة مؤثّرة أنصتت إليها هسبريس، خلال لقاء بالجمعية التطوعية الوحيدة بالناظور المهتمة بعلاج مرضى السرطان، حيث قالت كريمة، وهي مريضة من مدينة العروي، مصابة بالمرض هي وزوجها وابنها: “لولا هؤلاء لما كنتُ هنا”، أي حيّةً، في سياق حديث عن غلاء أدوية السرطان، وصعوبة التنقل الأسبوعي بين الناظور ووجدة لأسرة ضعيفة الدخل، إذ تساءلت “لو لم نجدهم فكيف كنا سنعالج؟ زوجي مريض، وابني كذلك، وأنا، فكيف كنا سنأكل ونشرب؟”.

عبد الجليل حمداوي، أحد أبرز مدبري “جمعية تآزر لمرضى السرطان”، ذكر لهسبريس أن متابعة العلاج في مراحل متقدمة، والفحوصات، وتخصصات معينة لعلاج السرطان، تضطر المرضى إلى الانتقال المستمر بين

الناظور ومدينة وجدة، أي ما يزيد ساعتين من التنقل، ولذا “من الخدمات المجانية للجمعية توفير حافلتين للنقل بين المدينتين، تُقلّان أزيد من 43 مريضا، وكذلك سيارة إسعاف، مع خدمات تطوعية مثل توجيه المريض بالسرطان”.

كما توفر الجمعية لمرضى السرطان الذين تتكفّل بهم “سيارة إسعاف عندما يحتاج المريض الذهاب إلى فاس أو مكناس أو الدار البيضاء أو وجدة، علما أن مرضى المرحلة النهائية غالبا ما يتوجهون إلى الرباط”، وفق المتحدث ذاته.

نائب رئيس “فدرالية جمعيات السرطان في الجهة الشرقية” وضح أن أول ما تقوم به الجمعية عندما يأتيها مريض جديد في حالة هشة، سواء كان له “تأمين أساسي” عن المرض أم لا، هو “دمجه في لجنة للدعم النفسي، لأنه يأتينا وهو مقتنع بأنه سيموت، فنيسر لقاءه بمرضى سابقين تحقق لهم الشفاء لرفع معنوياته”.

وتأتي بعد ذلك خدمات “الإرشاد والتوجيه”، وحجز المواعيد، والإيواء عند التنقل لمدينة أخرى للتداوي، مع توفير “لجنة اجتماعية تذهب إلى منازل الحالات المتقدمة التي لا تستطيع الحركة دون إصابات، وتحتاج أسرّة خاصة، وأجهزة للتنفس”، وتقديم خدمة “العلاج التجميلي للنساء اللائي اضطررن لاستئصال الثدي”. ويجدر في هذا الإطار توضيح أنه وفق الباحث في السياسات الصحية الطبيب طيب حمضي فإن “سرطان الثدي هو السرطان الأكثر شيوعا في المغرب؛ وهو واحد من كل 5 سرطانات يتم تشخيصها، عند الجنسَين”.

وجوابا عن سؤال كيفية تغطية جمعيةٍ لمثل هذه المصاريف قال حمداوي: “نذهب أحيانا لتأدية فاتورة أدوية في الصيدلية فنجد أن محسنا تكفل بها. وفي البداية طرقت ‘جمعية تآزر’ باب الدولة؛ فدعمنا مجلس الإقليم ومجلس الدعم، ونتوصل بهبات عينية خاصة من الجالية المغربية بالخارج”.

نزهة المخربش، عاملة بالجمعية، عددت لهسبريس الجهات الداعمة للجمعية التي تتكفل بمرضى السرطان في وضعية هشة من إقليم الناظور، ومن بينها: “مجلس جهة الشرق، والمجلس البلدي، والمجلس الإقليمي، والمحسنون، خاصة من الجالية المغربية بأوروبا، الذين يدعمون ماليا ويرسلون أمورا كثيرة، من بينها الحفاظات، والمكملات الغذائية لتقوية المناعة”.

ما العمل؟

في رحلة البحث عما تبقى من ذكرى “الكيماوي” بعد مائة سنة لاحظت هسبريس استمرار تجاذبات نقاش واقع السرطان، وتشخيص وآمال علاجه بين المؤسسات الطبية العمومية والخاصة والمبادرات المدنية، وغياب أي انتظار معلن لتطور في ملف اعتذار إسبانيا عن قصف المنطقة بغازات محرمة دوليا.

لكن، هل يعفي عدم إثبات الربط العلمي المباشر بين السرطان و”الغازات السامة” السلطات الإسبانية من الاعتذار عن جريمة مست المدنيين باسمها قبل قرن؟.

يجيب شكيب الخياري، رئيس جمعية الريف لحقوق الإنسان، بأنه “على المستوى الحقوقي هناك بشاعة وفظاعة مورست من طرف الإسبان، وهي ضرب منطقةٍ بغازات كانت في حينه محرمة دوليا؛ وبالتالي تتحمل إسبانيا مسؤولية أخلاقية وسياسية وقانونية وحقوقية، مع الألمان الذين زودوها بالغازات السامة، وكل الدول المتحالفة معها للقيام بذلك”.

ويتابع الخياري: “مغربيا نحتاج دراسات رسمية لإثبات جغرافية انتشار السرطان وعلاج المرضى”، وهو مطلب يؤكد عليه الطبيب الباحث في السياسات الصحية الطيب حمضي، الذي صرّح بأن “الموجود اليوم هو سجلان جهويان للسرطان يوفران معلومات عن المصابين وحياتهم ووفاتهم وتفاصيل مثل تدخينهم أم لا… في الرباط والدار البيضاء خاصة؛ ما يعني الحاجة إلى سجل وطني متكامل للسرطان، يسجل ويتتبع جميع الحالات جهويا ووطنيا، ويقدم بيانات كل مريض معين بالسرطان، ويفيد في معرفة أسباب الإصابة، والفئات الأكثر عرضة، ومدة التشخيص، هل مبكرة أم متأخرة، ونتيجة الأدوية… ما يتيح تقديم صورة حقيقية حول مرض السرطان بالمغرب”.

وحول “الممتنع اليوم” أثار الحقوقي شكيب الخياري إشكال “تأسيس الترافع المدني المغربي منذ عقدين على أساس أن إسبانيا يجب أن تعتذر لأنها السبب في انتشار السرطان في منطقة الريف، والحقيقة أنه إلى اليوم لا توجد أي دراسات تثبت العلاقة السببية بينهما، وهذا الغياب هو المعيار الذي اعتُمد في البرلمان الأوروبي لرفض مناقشة مطلب الاعتذار”.

وحمل المصرح جزءا من مسؤولية “ضعف هذا الملف” لـ”استغلاله، للأسف الشديد، من طرف بعض الأطراف في المغرب وإسبانيا بشكل سياسَوي محض”.

إذن ما العمل اليوم؟ يجيب الفاعل الحقوقي: “الاشتغال الحقيقي ينبغي أن ينصب على مطالبة إسبانيا بالتعويض، لكونها هي وألمانيا ودول أخرى متحالفة ضربت ريف البلاد بغازات كانت في حينه محرمة دوليا”، دون الدخول في تفاصيل ما سبّبه هذا القصف، لأن الفعل في حد ذاته مجرَّم.

أما محمد الداودي، أستاذ باحث بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، فيرى أن العمل اليوم ينبغي أن يصب في “واجهات مختلفة؛ الباحثون من جهة، والسياسيون من جهة، والفاعلون الاجتماعيون والثقافيون من جهة أخرى”، ثم استرسل قائلا: “من الإيجابي أن موضوع الغازات السامة صار محل نقاش في المجال العمومي، وطبعا الآن نحن في وضع أفضل مما كُنّا فيه قبل صدور كتاب الباحثين الألمانيَّين سنة 1996. ولدينا كم مهم من المعرفة التاريخية والعلمية، لكن الطريق مازال طويلا”.

وحول الكيفية السليمة للوصول يجيب الداودي: “الدولة مطالبة بالتعامل مع الملف بمسؤولية، من خلال علاقتها بالدولة المستعمِرة سابقا، والتخفيف من المعاناة الاجتماعية والاقتصادية لمرضى لسرطان في المنطقة. أما الجانب العلمي أو الأكاديمي الذي يهمني شخصيا فيحتاج اهتمام الجامعات والباحثين المغاربة ومختبرات البحث بالموضوع، من خلال توجيه الطلبة لإنجاز بحوث تاريخية وطبية وعلمية وبيولوجية وإيبيديمولوجية (أي دراسة علم الأوبئة)، وهو أمر غير موجود للأسف حاليا. كما يمكن القيام بالكثير، مثل ترجمة الأعمال العلمية في الموضوع، والتعريف بما وصل إليه البحث، وهي مسائل يمكن أن تسهم فيها الجامعة المغربية بشكل مفيد”.

ويواصل الأكاديمي: “يجب أن نعمل على مجموعة من الواجهات؛ فيما الاعتراف والاعتذار الإسبانيان مطلوبان لأن الاستعمار جريمة وينبغي على المجرم الاعتراف والتعويض والاعتذار، ولو أن هذا النقاش في إسبانيا متأخر مقارنة ببريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا، لكن على الأقل توجد إثارة للنقاش حول تركة الاستعمار في الدول المستعمرة”.

وفي الوقت الحالي يقدّر الأستاذ الباحث أنه بين الطرفين الأساسيّين في ملف “الغازات السامة” ينبغي مغربيا “عدم التعامل البحثي بحساسية مع التاريخ الاستعماري، لأن التاريخ بما فيه من سلبيات وإيجابيات في حاجة للنقاش غير الانتقائي”، أما إسبانيا فـ”على الأقل، يجب على إسبانيا تخفيف القيود على أرشيفها، لأن جزءا من المعرفة التاريخية فيه”، خاتما: للأسف بعض من الأرشيف الإسباني مقيَّد وغير مفتوح للباحثين، وبالتالي جزء من تكامل المعرفة التاريخية بالمغرب حول الحرب الكيماوية الاستعمارية في الريف وجبالة يبقى مقيدا”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق