
سميح القاسم: “خذوا حزني إن استطعتم، واتركوا لي فلسطين، فالحزن يتبدد لكن الأرض تبقى.”
فلسطين،
ليس لي ما أقدّمه لك سوى هذا الحبر الذي يلهث، وهذه الكلمات التي تُسابق نزف القلب. منذ أن وعيت على العالم، وأنا أتزحلق خلف اسمك كأنني أركض في منحدرٍ من الضوء، أتشبّث بقصائد محمود درويش، وأتفيّأ ألحان الشيخ إمام، كأنهما طريقان متوازيان إلى غابةٍ من الرموز حيث اسمك هو الشجرة الأم.
كنتُ أظن أنّني أكتبك، لكنني اكتشفت أنّك من يكتبني. كنتُ أركض خلف رغبتي في استعادة مدينة لم أرها، مدينة اسمها فلسطين، تتّسع لخيالاتي جميعًا، تتسلّل إلى ليل الحلم، وتوقظ في قلبي نداءً أقدم من الذاكرة. هل كنتُ واعيًا، وأنا أحمل في دمي تلك الرغبة التي تجعل منّي ناقلاً أمينًا لمشاعر ملايين الشباب الذين يشبهونني، يطاردون خيالاً لم يلمسوه لكنهم يعرفونه بحدس الروح؟
كانت أحلامنا الأولى قريبة، صغيرة كحبة رمان، لكنّها كانت قادرة على استنفار الغيم، واستدعاء المطر، والانتصار لعواطفنا المتعبة. واليوم، ونحن نعيش زمنًا أثقل، نجد أنفسنا أمام حزنٍ بطيء، حزن يزحف كالمساء على غزة، يستهلك طاقاتنا، ويفتح في القلب تاريخًا من الجراحات والآلام لا يلتئم.
فلسطين،
أنتِ أكثر من جغرافيا متنازع عليها، أنتِ كيمياء الذاكرة، وصوت الأذان الذي يوقظ الليل في المدن النائمة، وأغنية الطفولة التي لا تموت. فيكِ نلمح صورة الإنسان حين يواجه المحو، ونكتشف أن الكرامة ليست شعارًا بل طاقة حياة. أنتِ المجاز الذي يحرس معنى الحرية، والمعنى الذي يفضح قسوة العالم.
أكتب إليكِ لا لأواسيك، بل لأعترف: كلما اتسعت الجراح، اتّسع فينا حلمكِ. كلما اشتدّ الحصار، انفتح في قلوبنا أفقكِ. أنتِ الوعد الذي لا يشيخ، والقصيدة التي لا تنتهي، والأرض التي تُعلّمنا أنّ النصر الحقيقي ليس ما يُكتب في معاهدات، بل ما يُسقى من دموع الأمهات وصبر الحجارة.
فلسطين،
خذي هذه الكلمات القليلة كما يأخذ البحر رشفة نهر، لن تُطفئ عطشك، لكنها تعترف بوجودك الأبدي فينا.
أنتِ الأفق الذي يعيد إلينا ملامحنا، والجرح الذي يعلّمنا كيف نحبّ دون أن نيأس، وكيف نحيا دون أن نساوم.
ابقي، كما كنتِ دائمًا، رمزًا للحلم الذي لا ينكسر.
النشرة الإخبارية
اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا
اشترك
يرجى التحقق من البريد الإلكتروني
لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.
لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.
0 تعليق