العبور انتقالا .. - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

“الهوية ليست راية نرفعها، بل توازن هش بين ما نُظهره وما نُخفيه، وما نُجبر على أن نكونه” إدوارد سعيد

ليس العبور مجرد انتقال من مطار إلى آخر، إنه تحوّل صامت يجري في العمق كأنك تسير نحو المجهول لتكتشف ما كنت تجهله فيك. جوهر السفر كفعل وجودي مركّب لا يُقاس بالأميال التي قطعتها ولكن بكمية التحولات التي يُحدثها في الذات، بما يُفككه من يقين، ويكشفه من وهم ويحرّض من أسئلة.

أول من تلتقي به في العبور هو ذاتك وقد لبستْ وجهًا لم تعهده. تسمع لهجتك وهي تتكسر في حضرة لغة أخرى، ترى عاداتك وقد فقدتْ معناها خارج سياقها، وتشعر أن الهوية التي كنتَ تظنها ثابتة ليست سوى قناع يتبدل كلما بدّلتَ المكان.

ما معنى أن تَعبُر؟

في “لسان العرب” لابن منظور و”القاموس المحيط” للفيروزأبادي، نجد حوضا دلاليا عميقا لكلمة “عبَر”، عَبَرَ الشيءَ: أي اجتازه وتخطّاه، كقولهم: عَبَر النهرَ أي قطعه من ضفة إلى أخرى. وكلّ من اجتاز شيئًا فقد عَبَرَه، ومنه سُمّي المَعْبَر معبرًا، العَبْرُ: اجتياز الشيء ومجاوزته، وجاء في معنى الانتقال الذي يشمل الانتقال الحسي (من مكان إلى آخر مثل عبور الطريق، الجسر) والانتقال المعنوي (من حال إلى حال كالتحول من مرحلة زمنية أو وجدانية إلى أخرى). والعبور مرتبط بفعل “عَبَّرَ” الرؤيا (أي فسّرها)، لما فيه من اجتياز الظاهر إلى الباطن أو من الصورة إلى المعنى.

ليس العبور إذن فعلًا عابرًا، إنه استفهامٌ لماهية ضفتين. أيّنا نحن حين نكون على هذا الجانب وأيّ صورة سنصير إليها بعد العبور؟ ليس كلّ من عبرَ قد انتقل، وليس كلّ انتقال عبورًا. العبور لحظة يتهدّل فيها الزمن ويضطرب فيها المعنى. هو الشقّ الذي يفصل بين اليقين والتردّد، بين المألوف والاحتمال، بين المنزلة والمنفى. لا يعود العابر كما كان لأنّه، في جوهره، لم يعبر الحدود فحسب بل عبر ذاته.

كل عبور خيانة لصورةٍ سابقة وولادة لصورة لم تتّضح بعد. إننا لا نعرف أنفسنا في لحظة العبور، نتلمّسها كما يتلمّس الأعمى أرصفة الطريق. من يعبر، يحمل على كتفيه وزرَ ما خلّف وراءه وريبةَ ما ينتظره أمامه. والعابر الحقيقي هو من يخترق الزمن دون أن يُمحى فيه، من يجعل من العبور مقاما لا ممرًّا. لأن العبور سؤال الوجود قبل سؤال الطريق، أن تخرج من ذاتك التي تعرف لتقابل ذاتًا أخرى تنبثق فجأة حين ينهار المألوف.

في طوكيو، تشعر أنك غير مرئي

في داكار، تشعر أنك مرئي أكثر مما تحتمل

في القاهرة، تغريك الفوضى حتى الامتلاء.

في روما، تشعر أنك ضيف على ذاكرة لا تموت

في إسطنبول، تتعثر بين القباب والآذان كأنك في حضن ذاكرة تنسى وتغفر وتعود.

تكتشف في العبور شيئا أكبر من عوالم الآخرين، تكتشف تعددك الداخلي. تصير كائنًا منفتحا ذا وجوه متعددة ولهجات شتى، تستطيع أن تكون أنت وأن تكون شخصا آخر مؤقتًا دون خيانة. كل مدينة تكشف لك وجها آخر لم تُصادقه بعد.

العبور تفكيك خفي للحدود التي بَنيتها داخلك. حين تجلس في مطعم بسيط في فيتنام أو تركب قطارا في بلغاريا، أو تمشي حافيًا في قرية إفريقية لا تعرف اسمها.. تُدرك أن الإنسان واحد لكن تمظهراته بلا حصر. في قلب الثقافات الأخرى، تكتشف كم كنت محدودًا وكم بإمكانك أن تتسع دون أن تذوب. كل مكان جديد يُربك “أناك” الصغيرة، يكشف كم كنت مرتبطًا بعادات ليست ضرورية وبأفكار ليست مطلقة، وكم أن الاختلاف لا يهددك..

أجمل ما في السفر، ألاّ أحد يعرفك هناك، لا أحد يحكم عليك، لا أحد يتوقع منك أن تكون كما كنت، فترتخي وتبدأ بالتعرف على نفسك من جديد كأنك تُولد مرة أخرى لكن في جسدك نفسه. هناك، تسأل: من أكون؟ ويأتيك الجواب: أنت ما تختار أن تكونه هذه اللحظة.

في المدن التي نعرفها، نملأ الصمت بالضجيج كي لا نسمع أنفسنا. في لحظات العبور، نُجبَر على الإصغاء وكل ما يعلو هو صوت الغريب الذي يسكننا. ذات مساء، في شقة مستأجرة في الطابق الخامس، جلستُ على الأريكة الصامتة أُحدّق في السقف. لا أحد يتحدث إليّ، لا رسالة، لا إشعار، لا صوت. وكان هذا الصمت، لأول مرة، صديقًا لا وحشًا، صوته لم يكن قاسيا لكنه لم يُجاملني. قال لي:

-أتعرف؟ لستَ كما تدّعي.. أنت تتهرب. تضحك كثيرا كي لا يراك أحد وأنت تبكي. تعمل كي لا تسأل عن معنى ما تفعل. تعود كل مساء إلى نفس العادة، لأنك خائف من أن تبدأ من جديد.

كان صوته قاسيا لكنه صادق. وفي الصباح التالي، كتبت رسالة إلى نفسي. لم أبدأها بـ”عزيزي”، كتبت: “أيها الغريب، شكرا لأنك ظهرت.”

حين يكون العبور حقيقيًا، يُسقط الأقنعة عن وجهنا القديم. يُحرّرنا من شخصيات صنعناها لإرضاء من حولنا، ويعيدنا إلى ذلك الطفل الذي كان يبكي حين لا يُفهم، ويضحك حين تدهشه زهرة.

نعتقد في الترحال أننا نعبر ما نعرف إلى ما لا نعرف. لكن الحقيقة أعمق من ذلك: نحن لا نُعيد تشكيل أنفسنا بين ما يتغيّر وما يظل. فالثابت هو تلك النواة الخفية في داخلنا، التي لا تتزحزح مهما تبدّلت المدن والوجوه واللغات. إنها الذات العميقة التي تحرس جوهر السؤال: “من أنا في كل هذا التيه؟”.. الثابت هو الحنين، الذكرى التي لا نخلعها مع الجواز، الإحساس الخفي بالانتماء حتى في أقصى المنافي، واللهجة الأولى التي تسكننا حتى حين نتكلم لغات الآخرين. أما المتحول، فهو كل ما نلمسه في الطريق: نظرتنا للأشياء، مفهومنا للوقت، خريطتنا الداخلية لمعاني البيت، الوطن، الآخر والغريب.. المتحول هو الوجه الذي تراه في مرآة فندق عابر وتُدرك أنه لم يعد كما كان في مرآة غرفتك الأولى. الثابت يحفظك والمتحول يصقلك. والترحال الحقيقي هو أن تتقن الرقص بينهما.

نكتشف في العبور أن أكثر ما اعتقدنا ثباته قد يتلاشى، وأن أكثر ما اعتقدناه مؤقتًا قد يصبح دائما. يُبدّلنا العبور ببطء كما تفعل الريح بالصخور، لا يُحدث شرخًا فورياً لكنه ينحتنا باستمرار. علاقة، لحظة، صورة، رائحة قبلة أو حتى صمتٌ عابر مع غريب في قطار ليلي… أشياء صغيرة تتحول إلى أعمدة في بنائنا الداخلي.
في ساحة ببوخارست، التقيت رجلا سبعينيا بولنديا كان يحمل آلة كمان بوتر ناقص. حين سألته عن السبب، قال لي: “حين ماتت زوجتي، أزلت وترا

كانت تسكنه”. سألته: “أين بيتك؟” قال بمرح: “كلما عزفت، استعدتُ غرفة من بيتنا القديم”، ثم أضاف: “الغربة ليست عن البلاد بل عن الأيام التي كانت لنا فيها حياة.”

حين وصلتُ إلى أوسلو ذات شتاء، لم أفهم اللغة ولا الحروف، في محطة الحافلة، قدّمت لي امرأة مسنّة خريطة لم أطلبها. قالت لي بإنجليزية متعثرة: “أنت غريب، أعرف طعم الغربة.” فأدركت أن العبور لا يحرّك الجسد فقط، إنه يُخرج الغرباء فينا ويُفصح عن هشاشتهم.

في كل سفر، لا شيء يسافر مثلنا نحن العابرون الذين لا يعرفون ما إذا كانوا يرحلون أم يعودون. ثمة فرق هائل بين أن تُسافر وأن تعبر. يحمل المسافر وجهة، حقيبة، نية وتاريخاً يودُّ أن يستمر أو يُنسى. أما العابر فهو ظلٌّ يعبر الأشياء ليتخلّى عن كل استقرار. ليس العابر سائحًا ولا هاربًا. هو كائن اللحظة الهشّة، ذلك الذي يمشي دون يقين، يقيس المسافات بالخيبات، بالنظرات التي لا تكتمل، بالمقاهي التي لا يزورها مرتين، بالمدن التي تمرّ عليه مثل نُزل عاطفي لا يُقيم فيه إلا الألم. لا يحمل العابر وطنًا في جيبه، إنه يحمل سؤالًا يتغذّى عليه: “ماذا لو لم أكن؟ ماذا لو كنت آخر؟ ماذا لو لم أعد؟”

يُحدث العبور اختلالا في التوازن بينك وبين ذاتك. كل عبور يسرق منك جزءاً من يقينك، من لهجتك، من هويتك، من روابطك. تصبح أقلّ ثباتًا، أكثر شفافية كأنك تذوب في الأرصفة، تتشرّب لغات جديدة ووجوهًا غريبة تُصبح جزءًا من روايتك الداخلية. يكشف العابر في الفنادق، في المحطات، في المطارات، في الأرصفة والمقاهي… عن كائن لا يحتاج إلى ماضٍ ولا إلى مستقبل. يكفيه أن يكون عابرا، وكل عابر هو مؤقت، وكل مؤقت هو مرآة للوجود حين يكون عاريًا.. العابر هو الذي يجازف بالمرور فوق ذاته دون أن يسكنها طويلاً. كأنما الحياة ليست إلا ممرا ونحن محض عبور فيها، عابرون في غرف الانتظار الكبرى للوجود. وحين يسأل أحدهم: “أين تسكن؟” يبتسم العابر لأنه لم يعد بحاجة إلى الجواب. فالعابر لا يسكن، العابر يمر. وكل عبور في ذاته، سكن مؤقت في الريح.

العبور مرآة لا تعكس وجهك كما هو، بل كما يصبح حين يرى نفسه في مرايا الآخرين. أنت لا تعرف من أنت تماما حتى تضيع في شارع غريب، أو يُطلب منك تفسير شيء بديهي لديك، فتكتشف أن البديهي نسبي وأن ثقافتك ليست إلا اختيارًا عابرًا وسط اختيارات كونية لا تنتهي. هنا تصطدم بحدود ذاتك، تتعرّى من أوهام الامتياز وتتعلّم التواضع.

كل مدينة مررتَ بها تركت فيك أثرا، وشمًا لا تراه في المرآة، لكنه يُوجِعك في الحنين. هناك مدينةٌ تركتَ فيك نغمة. أخرى تركتَ فيك رجفة برد. أخرى جعلتكَ تبكي بصمت في مترو مزدحم. وأخرى ابتسمتْ لك فغفرتْ لك كل طيشك.. لا نغادر المدن حقًا، هي التي تخرج معنا، تقبع في حقائبنا وتتكلم بصوت خافت حين نصمت.

تقترب في العبور من شيء داخلك لم يكن يجد لغة للتعبير. تبدأ بالتحدث مع نفسك أكثر. تتأمل وجوه العابرين دون أن تعرف أسماءهم. تصير أكثر صمتًا لأنك صرت أكثر إنصاتًا.. قد تُبكيك قطة في شرفة، قد يعلّمك عجوز يعبر الشارع ما لم تعلّمك الكتب. تشعر أنك تفلت من يدك، لكنك في الوقت نفسه تقبض على شيء لا يُقال. العبور انزلاق هادئ من ضفة الذات القديمة إلى ضفة الذات الممكنة. محو بطيء للغبار الذي راكمه الروتين على روحك، تقف أمام نفسك لتبتسم لها وتقول: أخيرًا، فهمت شيئًا صغيرًا من هذا الكون الهائل وأنا أواصل السير.

حين نبقى في أماكننا، في حياتنا اليومية، ينكمش الزمن تحت وطأة التكرار، يعلو صوت الواقع حتى يصبح ضجيجًا ينفي كل ما هو ممكن، كل ما هو قابل للدهشة أو التبدل أو اللعب. تصير الحياة جدولًا زمنيًا أكثر من كونها مغامرة وتنكمش الذات تحت سلطة التوقع والواجب والعادة. ويكفّ الممكن عن الحدوث، كأن الزمن تواطأ مع اللامفاجئ.

لكن في الترحال، يعود الاحتمال ملكًا، نخرج من زمن الخضوع إلى زمن اللعب. حيث كل خطأ قابل لأن يُروى. لأننا نتعلّم التذوق البطيء للتيه. فكل شيء محتمل: أن تصل أو تتأخر، أن تضحك مع غريب أو تبكي أمام غروب، أن تفقد طريقك وتربح تجربة جديدة.. هناك متعة لا تشبه شيئًا تنبع من كونك مجهولًا وأنك تحررت من كل مرآة، كأنك استعدت الطفولة، تصبح ذاتك بلا حراسة. لا يراقبك صديق أو جار، لا تحكمك النظرات، لا يذكّرك أحد بما يجب أن تكون عليه. إنها حالة لعب حر، انفلات من الحتميات وخروج من هوية صلبة إلى هوية سائلة، مرنة، مُمكنة.

ربما العبور هو الشكل الوحيد للحياة الذي ينقذنا من سطوة التكرار. يفتح كوة في جدار الواقع ويقول لنا: ليس كل شيء مكتوبًا. حيث نُعيد التفاوض مع وجودنا. نسأل أنفسنا مجددًا: من نحن؟ ماذا نشتهي؟ ما الذي يُبقينا أحياء في هذا العالم؟

اُعبر لتتعلّم كيف لا تعرف دون أن تخاف. لأن الاحتمال هو شكل من أشكال الحريّة، والعبور تمجيد صامت لهذا الحرف الغامض في كلمة الحياة: “ربما”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق