الطريق إلى مكة - بلس 48

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بعض الكتب لا تُقرأ وحسب، بل تُعاش. وكتاب “الطريق إلى مكة” لمحمد أسد كان من هذا النوع. نُشرت هذه السيرة الذاتية عام 1954، فنقلت قُراءها في رحلة عبر الزمن إلى حقبة ما بين الحربين في المشرق العربي والإسلامي، حين كان لا يزال متأثرًا بانهيار الإمبراطورية العثمانية وبمناورات القوى الاستعمارية الأوروبية.

أكثر من مجرد شهادة شخصية على عصره، يشكّل كتاب “الطريق إلى مكة” رحلة حقيقية إلى أعماق إنسان ذي مصير استثنائي، مقرونة بلوحة تاريخية صادقة عاشها بنفسه في قلب المشرق العربي والإسلامي مطلع القرن العشرين. فقد وُلد ليوبولد فايس يهوديًا نمساويًا سنة 1900، ثم اعتنق الإسلام عام 1926 وتَسَمّى بمحمد أسد. كان مفكرًا وصحفيًا ودبلوماسيًا، وبرز كأحد أبرز الوجوه المسلمة في عصره، لا سيما من خلال دوره الدبلوماسي لصالح باكستان بُعيد تأسيسها سنة 1947.

وما كان يلفت الانتباه فيه هو الألفة العميقة والصادقة والحميمية التي نسجها مع المجتمعات المسلمة التي عشق العيش والترحال في كنفها، وسط صحاري الجزيرة العربية كما في بازارات إيران، حيث لم يكتف بالمشاهدة. تعلّم لغاتهم وشاركهم حياتهم اليومية. فعاش مع البدو يفترش الأرض ويلتحف السماء، يلبس ويأكل ويشرب مما يلبسون ويأكلون ويشربون. هذه الغطسة الصادقة والكاملة في حياتهم أكسبته ثقتهم النادرة، لدرجة أن الشخصيات السياسية السامية في ذلك الوقت، من أبرزها الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، ما كانوا يترددون في إطلاعه على أسرار الدولة واستشارته وحتى تكليفه بمهام حساسة وأحيانًا خطرة.

فكيف يمكن لرجل أوروبي أجنبي بامتياز، أن يصل إلى مثل هذه المكانة وهذا القرب؟ الجواب بسيط، ويكمن في نظرته المتحررة علنًا وبصدق من المنطق الاستعماري، وفي نقده اللاذع لنمط العيش في الغرب ولسياساته الإمبريالية، وقبل كل شيء في إيمانه الجديد الذي عاشه بلا تكلّف. وتجدر الإشارة إلى أنه قضى في آخر حياته عشرين سنة في مدينة طنجة مُتفرغًا لمشروعه الكبير: ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية مع تفسيره، والذي صدر لاحقًا تحت عنوان “The Message of the Qur’an”. ثم انتقل من طنجة سنة 1982 ليقيم فترة في البرتغال، قبل أن يستقر أخيرًا في قرطبة بالأندلس، حيث ربما جذبه الحنين إلى ذلك الزمن الجميل الذي كانت فيه موطنًا للحضارة الإسلامية طيلة ثمانية قرون، وهناك توفي ودُفن رحمه الله سنة 1992.

ومن خلال تحوله للإسلام عن علم، وغيرته على أحوال ومصير المسلمين الذين صار واحدًا منهم، انكشف له تناقض تاريخي صادم. فالعالم الإسلامي الذي عايشه بعشق روحي، عزّ عليه أن وجده يفتقر إلى مؤسسات حديثة وصلبة مثل التي عرفها في بلده الأصلي وفي باقي أوروبا. وجده لا يزال يعاني من الانقسامات والاضطرابات والعصبية القبلية وعدم الاستقرار، مع غياب شبه كامل للأمن على الحرمات المُقدسة في الإسلام كما اكتشفه واقتنع به وآمن به واعتنقه.

في هذا السياق، وعلى الرغم من انتقاده الصادق واللاذع للتدخل الغربي بوصفه إمبرياليًا وغير شرعي، كان يجد فيه أحيانًا عامل تقدم من حيث النظام والانتظام الذي يأمر به الإسلام. ودروس التاريخ واضحة ولا ترحم. المجتمعات التي تعجز عن تنظيم نفسها مهددة بأن تصبح فريسة للهيمنة الخارجية. فويل للضعفاء. وبصفته معتنقًا للإسلام عن علم وبصيرة، كان محمد أسد يزن إخوانه المسلمين بميزان تعاليم دينهم، لا بالعكس كما اعتاد خصوم الإسلام منذ القدم وحتى اليوم.

وهكذا فالاستعمار الذي تعودنا الحكم عليه دوماً وبحق أنه كان شرًا مطلقًا، فقد شكّل مع ذلك حافزًا على الاتحاد والتعاون بدلاً من التفتيت والتشرذم، وعلى تنمية الروح الوطنية في مواجهة العصبية القبلية، وعلى التحديث والتقدم في وجه التقليد الأعمى والجمود. وبذلك قادت تلك المرحلة فعلًا إلى نشوء دول حديثة وقوية بما يكفي لانتشال شعوبها بقدر ما من براثن البؤس والتفكك والفوضى وضعف الأمن.

لكن الثمن الذي دُفع كان هائلاً: من إذلال ومهانة وتبعية اقتصادية واستنزاف للثروات الطبيعية واستغلال للموارد البشرية.

ومن فوق ذلك كله جُرح عميق لا يزال ينزف والمتمثّل في إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، قلب العالم العربي والإسلامي. كيان استعماري غربي إمبريالي غاصب للأرض والكرامة والشرف، وغريب عن شعوبها وعن لغتها وباقي مقومات ثقافتها، ومتوحش مكشوف بشهادة أبنائه وبشهادة كل شعوب الأرض. ولا يزال حتى اليوم المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في كل المنطقة. فما هو إذن الدرس الذي يمكن استخلاصه من القراءة المتأنية لهذا العمل القيم لمحمد أسد؟

فيما يتعلق بالوطنية، يبدو أن الفرق بين النخب الغربية ونخب “الجنوب العالمي” (le sud global)، كما يحلو للغربيين تسميته لتمييزه عنهم بصفته “الآخر”، يعود بقدر ما إلى طريقة تدريس التاريخ السياسي الوطني. في الغرب يعرض التعليم عمومًا ومن دون تحفظ أو مركب نقص إخفاقات الأنظمة السياسية العتيقة وعواقبها الوخيمة من حروب أهلية وتخلف وفوضى وانعدام الأمن والبؤس الاجتماعي. ماضٍ موصوف من دون حرج وبحق، بالعصور الوسطى المظلمة، كي يظل مكروهًا ومنبوذًا وتُستخلص منه الدروس اللازمة من أجل التقدم إلى الأمام.

وعلى النقيض من ذلك، ففي عموم “الجنوب العالمي” الذي تعرض للاستعمار، أدّت الحاجة إلى غرس الشعور بالفخر الوطني عقب التحرر من قبضته إلى صياغة سردية تمجيدية للماضي كانت ضرورية ومشروعة، تركز في دروس التاريخ الوطني على أمجاد خيرة الأسلاف وعلى حقب الرخاء والازدهار، مع تغييب مثالب أشرارهم وحقب السيبة والتشرذم التي تسببوا فيها وكانت سببًا مباشرًا في الوقوع تحت نير الاستعمار.

ورغم أن هذا التوجه مقبول ويُفهَم في سياقه التاريخي، إلا أنّ استمراره طويلاً يؤدي في النهاية إلى حجب مواطن الضعف البنيوية الداخلية التي سهّلت في الماضي الاستعمار ومكّنت من تبعاته المهينة، والتي ينبغي التحسيس والتوعية بها من خلال دروس التاريخ الوطني وحتى الأفلام والمسلسلات التلفزيونية للتّحصين من تكرارها من باب الغفلة ومن دون شعور. فالاستعمار إن اختفى في شكله الفج والفاضح فإنه لا يزال وسيظل حاضرا في أشكال مستترة قلّما يُلقى لها بال.

فالتنافس على الهيمنة قائم لا محالة ولا يرحم حتى بين الكبار كما نشاهده بوضوح صباح مساء في نشرات الأخبار. لذا فالروح الوطنية مطلوبة في كل زمان ومكان، وإلا فويْل للغافلين.

ومن أجل هذا الغرض، فللجنوب العالمي يتوفر على مراجعه التاريخية الخاصة بأقلام مؤرخيه وإخبارييه القدماء وأبحاث الأكاديميين الجدد لصياغة دروس في التاريخ الوطني متوازنة. شهادات الأجانب مثل محمد أسد في العالم العربي والإسلامي، تبقى ذات دلالة لا يستهان بها. ولكن أعمال المؤرخين المحليين القدامى والجدد، مثل معلمة “الاستقصا” الضخمة للمرحوم أحمد بن خالد الناصري في المغرب، تثبت أنها مفيدة بنفس القدر إن لم تكن أكثر. وذلك بالإضافة إلى البحوث الأكاديمية الوطنية الحديثة والقيّمة، من مثل كتاب “المجتمع المغربي في القرن 19 (إينولتان 1850-1912)” للأستاذ أحمد التوفيق، ومُجمل كتب الأستاذ عبد الأحد السبتي وغيرهما.

وقد استمتعت شخصيًا بقراءة كتبهم، وبالخصوص قراءة كتاب الاستقصا كله على طوله، فوجدت مؤلفنا يقدم فيه روايات متوازنة إلى حد كبير، من حيث يُظهر بفخر واعتزاز محاسن وأمجاد المجتمع المغربي عبر التاريخ وحتى عهد ما قبل الاستعمار، لكنه بقدر ما يُبرز بشكل جلي نقائصه وهشاشته بحكم طبيعته البشرية، والتي ما كان يتوانى أحيانًا عن انتقادها وذمها من دون تحفظ ويزنها بميزان تعاليم ديننا الحنيف، تمامًا كما فعل محمد أسد.

فالاستفادة من دروس التاريخ الوطني من مثل هذه المصادر الوطنية من شأنه أن يجعل المتعلمين يغوصون في حياة أسلافهم ويعيشونها كما عاشوها في وقت الرخاء والازدهار كما في وقت الأزمات والانحطاط والانهيار، بمحاسن صفاتهم ونقاط ضعفهم كبشر على حد سواء. فيساهم هذا النهج في تنمية روح وطنية قوية لديهم، كما حصل لمحمد أسد بالمعاينة. روح وطنية مستنيرة وواقعية في نفس الوقت. روح وطنية قوية وصادقة تجعل المواطنين من جميع الأعمار مهتمين بمستقبل حيهم وقريتهم ومدينهم وبلدهم وأمتهم، بمقدار اهتمامهم بمصيرهم الفردي وأكثر.

يعتنون بالفضاء العام كامتداد طبيعي لفضائهم الخاص ببيوتهم. وأيًا كانت المهنة التي يمارسونها، فإنهم يزاولونها وهم يفكرون في الصالح العام بقدر ما يهتمون بشؤونهم الخاصة، ويسعون بأنفسهم إلى تحسين بيئتهم قدر الإمكان بدلاً من مجرد التوقف عند انتقاد عيوبها.

هذا ما يلهمه عمل محمد أسد، الذي يغوص بالقارئ المسلم في تاريخ دول المشرق العربي والإسلامي في فترة الاستعمار حيث كان بوصفه مسلماً غيوراً على مصير إخوانه المسلمين، فاعلاً نشطًا أكثر من كونه مجرد شاهد أجنبي. وقد وصل أمر الثقة فيه وفي عشقه للإسلام وللمسلمين على علاتهم ولأوطانهم إلى درجة أن اختارته باكستان الفتية بُعيد نشأتها بقليل ممثلاً لها في هيئة الأمم المتحدة الجديدة النشأة بدورها في الخمسينيات من القرن الماضي. وقد ساهم في الدفاع عن القضية الفلسطينية بهذا المحفل الدولي الجديد وبالوقوف ضد الاعتراف بإسرائيل والمرافعة من أجل حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. كان بذلك صوتًا دبلوماسيًا لباكستان ووجهًا معبّرًا عنها في القضايا المصيرية للعالم الإسلامي. ويقدم محمد أسد بخصوص الروح الوطنية نموذجًا جيدًا لكل مسلم بالولادة أو معتنق للإسلام، بفضل قراءة التاريخ قراءة متوازنة وبعين مستنيرة، كي يستفيد منه على أكمل وجه خدمة للأمة والوطن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق