بيئة القصة
تدور أحداثها في مدينة قرطبة، مهد حضارة الأندلس لقرون خلت، تغوص في أعماق الروح البشرية وتكشف عن شوقها للراحة والطمأنينة، عبر ممارسات تنشد الإيثار والتكافل، وصولاً إلى تحقيق غذاء الأمن الروحي.
يشغل مهنة طبيب، ولم يكن يتوانى عن التنقيب في بطون الكتب التي كانت تشغل الجزء الأكبر من باحة منزله الريفي؛ كهواية وصلت به حد الشغف بكل ما هو قديم، حتى عُرف لدى باعة الخردوات “بالصياد العجوز”.
في مشيته وإطراق رأسه، يخاله المرء في حالة حرة؛ تملك عليه جوارحه حتى بالالتفات إلى ما كانت تعج به الشوارع من حوله، من صخب باعة الرصيف وعروض الواجهات الزجاجية. لا تعود له سكينته وهدوءه إلا إذا صكّ قفل الباب وانتهى إلى مكتبه الذي يكاد يغرق وسط أكوام كتب مبعثرة وأوراق مخلوعة طائشة أو مكمشة. إذا تسرب إليه الملل، عبأ غليونه وانتقل إلى كوة هناك؛ تشرف على ساحل صخري؛ يتأمل زبد أمواجه تتكسر هنا وهناك. وكم كان يسرح به خياله خلال الليل، يلقي بنظرة تلو أخرى إلى نجوم كانت تومض من بعيد.
هكذا كان حال جوزيف باردو قبل أن يدركه سن التقاعد، فينقطع إلى بيته الريفي؛ منغمساً في أوراقه وكتبه. لكن؛ ذات يوم بينما كان هائماً وسط خردة الكتب؛ استرعى انتباهه كتاب (Tesoro viviente) الذخيرة الحية؛ داخَل أوراقه وحل يابس وحزازات جنباتها متآكلة بفعل حشرة الأرضة. أخذه بين يديه يتصفحه بنظرات ثاقبة خلف نظارة طبية قديمة، ثم ما لبث أن سأل صاحبه:
∙ كم تطلب مقابل هذا المهترئ؟
∙ ليس مهترئاً سيدي، فهو كامل وغير مبتور. اقتنيته ضمن مواد خردة، قدم صاحبها للتو من مدينة غرناطة.
∙ غرناطة؟!
∙ نعم، هو الآخر حصل عليه صدفة من بائع متلاشيات.
∙ سأعطيك دولارين مكسباً لك.
∙ فهو لك… وإذا زهدت فيه يوماً فأنا هنا..
أصداء تناقلتها شوارع قرطبة
إرهاصات بوجود أشخاص خيرين؛ يسعون في تقديم خدمات للآخرين، ويبذلون لهم الجود والكرم. بعضهم كان في زوايا الأرصفة يترصدون لعلهم ينالون من إكراميات هؤلاء، بينما البعض الآخر اعتبر الأمر محض خدعة، إما للسطو على آخرين أو الاحتيال عليهم. وبين هؤلاء كانت تقف عيون وجواسيس؛ تتابع حركة المارة أو تسمرهم بأبواب المحلات والعمارات. قلة منهم من كان يظفر بصدقة على الرصيف، لكن داخل المقاهي والمطاعم، كثيراً ما كان روادها يتحاشون الخوض في هذه الشائعات، بالرغم من أن هواتفهم مثقلة برسائل قصيرة حولها. بل إن أحدهم زعم أنه شاهد عند مدخل عيادة رجلاً مغترباً يدفع تكاليف الوصفات الطبية لزوار عديدين، ويبذل لهم في العطاء.
أمام هذه الأصداء المتصاعدة، اجتمعت خلية للشرطة القضائية بالمدينة، وعلى جدول أعمالها عنوان “الحذر من ألاعيب الانتخابات”، وأصدرت منشورات؛ بثتها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بأن “أعمال البر والإحسان أصبحت مقننة بتراخيص رسمية صارمة”.
مداهمة الشرطة
عند مدخل مصحة بأحد الشوارع الفخمة وسط المدينة، كان يقف شخص يبدو طاعناً في السن، يحمل رزمة أوراق وكتب، كلما هم أحد بمغادرة المبنى تقدم إليه وناوله مظروفاً. توالت هذه العملية أمام أعين؛ كانت تترصده من خلال نوافذ لأبنية مقابلة. وعلى حين غرة، أمسكوا بالشخص واقتادوه إلى وجهة مجهولة، فحصوا متاعه، فلم يعثروا في جيوبه ولو على سنتيم واحد، فتوجهوا إليه بسؤال لم يكن يخلو من لهجة ناهرة:
∙ لماذا كنت ترمي بأموالك إلى المارة، هل أنت مخبول؟!
∙ بقي ملتزماً الصمت.
∙ هويتك؟
∙ تأملوا بطاقته، وهم يتبادلون نظرات العطف “متقاعد”!.. ما هي حرفتك؟
∙ طبيب.
∙ طبيب، يعني كنت تريد التكفير عن ذنوبك المهنية؟!
∙ ربما…!
∙ خذ هويتك.. ونحذرك من هذا العمل، وإلا قذفنا بك إلى مستشفى المجانين!
الصحافة: تقنين الخير أم اغتيال للإنسانية
تناسلت تساؤلات الرأي العام حول حادث الإمساك بمحسن على قارعة الطريق، وردعه وتهديده. وذهبت مراسلة إحدى الصحف الصفراء إلى أن القضية مبطنة باغتيال مشاعر وعواطف العامة، بينما أكدت مراسلة BBC بأن الرجل المحسن؛ حسب تقريرها الاستقصائي؛ ليس بالإنسان العادي، بل وصفته بأن هالة مشعة كانت تكتنف رأسه، أشبه بقديس، وشعرت بالأمن الباطني العميق الذي غمرها وهي تقابله.
بعد الجدل الحاد الذي أثارته المراسلة على مواقع التواصل الاجتماعي، تعاظم فضول العديدين بالحرص على مقابلة هذا “القديس المزيف”، وكم كانت خيبة أملهم وهم يجدون أبوابه كلها موصدة، ما حدا ببعضهم؛ خفية في ليلة بهيمة؛ إلى تهشيم النوافذ واقتحام المبنى، بغية الوقوف على بعض الأسرار، فاستغربوا لوجود أوراق وصفحات، تكاد تغطي كل جدران منزله، أوراق مرقمة بإسبانية قديمة تعود إلى القرون الوسطى، فاحتاروا في أمرها.
فك شيفرة الكتاب
مرت فترة ثلاث سنوات على اقتحام منزل جوزيف باردو، فاستحال هذا الأخير إلى سقوف وأعمدة مهترئة؛ يقف على حراسته عسكريان. تتقاطر على زيارته؛ بين الفينة والأخرى؛ أناس بزرافات ووحداناً، وبفئات عمرية مختلفة؛ يكتفون بإلقاء نظرة حول جدران المبنى أو يتبادلون أحاديث ودية وأرقاماً هاتفية، كما لو باتوا يشكلون منتدى لأعمال خيرية. سأل أحدهم جمعاً غفيراً، بينما كان بصره متجهاً إلى بوابة المنزل:
∙ وددت أن أراه وأتبرك بنوره.
∙ ترد عليه إحداهن، وقد نزلت لتوها من سيارة رولز رويس: إنه أبونا، ليتهم كشفوا عما انتهى إليه مصيره!
∙ فرد عليها آخر من الخلف.. أفسحوا له الطريق لتقدمه في العمر: وأنا مستعد لأهب ممتلكاتي لأنعم بالراحة والنورانية التي بثها فينا أبونا جوزيف.. وليتني أصل إلى كتابه، لكن لحسن حظي لم أنل منه سوى ورقة. فتوجهت إليه الأنظار بشيء من الإكبار والتجلة، وهم يعاينونه بهذه الطاقة الروحانية العالية.
سحر جوزيف يطير في الآفاق
باحثون توقفوا عند ظاهرة “جوزيف الخرف” ما إن كان دجالاً ساحراً، يمنح الناس من حوله ليخدعهم، فاستعانوا بذكاء اصطناعي ليدلهم عما إن كانت دعوة جوزيف ضرباً من السحر والاحتيال، فعثروا على أسماء كثيرة، في كل من آسيا وأمريكا وأفريقيا، تتفق دعاويهم مع ما كان ينادي به جوزيف باردو، بل وجدوا من يحتفظ ببعض أوراق كتبه؛ تم تسريبها عبر منصات التواصل الاجتماعي باللغة الأصلية، مستنسخة، ربما هي السبب في الضجة الإعلامية التي أثارتها “فلسفته” في الهناء الروحي بالبذل والسخاء.
شانصوبيكي ومكتبة الكونجرس
تقاطرت الرسائل وتوالى لهيبها بخصوص كتاب الطبيب جوزيف باردو، ما إن باتت تشكل تياراً في طور النشوء لقيام حزب أو دعوة مبطنة لحركة انفصالية، على غرار إقليم الباسك ما استدعى تدخل شانصوبيكي، أحد الاختصائيين في فك الشفرات وتمحيص الكتب القديمة المعتمدين من قبل منظمة اليونسكو، فحل فريقه بمنزل الطبيب جوزيف باردو، فشرع في تصنيف وتسجيل كل بقية الكتب وقطع الأوراق التي عثروا عليها.
كانت أمامه على المنضدة أوراق قديمة متآكلة الحواشي، يكاد لون الغبار يكسوها، سلط على عينة منها ضوء جهاز إلكتروني شفاف بعد تغذيته بمحلول مادة الكربون، فوجدها تعود إلى القرن الثامن عشر، تحمل شروحات لنصوص لم يقف لها على أثر، فنادى أحد مساعديه:
∙ كما ترى، هي أوراق بإسبانية قديمة، لكن السؤال المحير، أين هو هذا الكتاب المنزوعة منه؟
ولم يكن أمامه بد من استشارة برنامج يحمله معه في حقيبته؛ تقوم آلياته على ذكاء اصطناعي متعدد الوظائف.. بعد أن غذاه بصور لعينة من هذه الأوراق، لم يتردد؛ وفي أقل من ثانيتين دلّه على مصدرها، والذي يعود إلى كتاب باسم “الذخيرة الحية”، توجد منه نسخة وحيدة بمكتبة الكونجرس الأمريكي، ولا يسمح لا باستنساخها ولا بالوصول إليها.
يسدل ستار القصة على
شانصوبيكي بإحدى ردهات المكتبة، قعد يتصفح كتاباً بعنوان “الذخيرة الحية” لمؤلف مجهول، من خلال تفحصه لأوراقه وجد معظمها عبارة عن شروح مستفيضة لشهادة أشخاص عديدين مع تجاربهم، بخصوص نصوص تستقل بها صفحتان في مستهل الكتاب، يصرح مؤلفها بأنها مترجمة من اللغة القشتالية، وهي ذات جذور عربية أندلسية، من بينها هذه العينة من النصوص:
“Quien rece por mí una sola vez, Dios le enviará diez bendiciones, le perdonará diez y le .”
”La mejor persona entre la gente es aquella a través de la cual se satisfacen las necesidades de los demás.”
El recuerdo constante de Dios y las oraciones sobre Su Profeta traen bendiciones a la vida del creyente en general. El alivio de las preocupaciones y el perdón de los pecados, como se menciona en el Hadiz, hacen que la vida de la persona sea más cómoda y feliz, y bendicen su tiempo, su vida y su sustento, abriéndole las puertas del bien.
في تقرير شانصوبيكي النهائي بأنها نصوص مستقاة من مخطوط قديم؛ وجد في خزانة أحد أمراء غرناطة من بني الأحمر، تمت ترجمتها إلى اللغة القشتالية آنذاك.
ويختتمها بعبارة “هذا هو الإكسير الذي أفنى الفلاسفة أعمارهم في البحث عنه”.
0 تعليق