ذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرة - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
ذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرة - بلس 48, اليوم الاثنين 21 يوليو 2025 10:59 مساءً

ذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرة

ذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرة

محمد محمد محمد أبوريا

لم يكن الفطور الصباحي في غزة مجرد وجبة طعام روتينيّة يدلفها الفرد في بطنه ويمضي.

أذكر جارنا العجوز الذي كان يفطر مع زوجته العجوز في دكانته، إذ كانت تجهز بيضاً مسلوقاً، وزيتاً، وقليل زيتون، وخبزاً بلديّاً محمّر الوجه، ممتدّ الأطراف. على صينيّة من الألمنيوم، يتقابلان في منعطفٍ مفاجئ من الحب كل يوم.

وأذكر فطور جدي -رحمه الله- الذي كان يستيقظ باكراً منذ ساعات الفجر الأولى، ثم تستيقظ جدتي لتصنع له فطوراً: بطاطا مقليّة على هيئة أصابع، وبندورة مقليّة تشارفُ على أن تحرق، وباذنجاناً شرائحَ ملوحةٍ كصفحات الأعلام، تجلب جدتي الفطور في مقلاتين أصيلتين وصحون.

فيتكئ جدي على ساعده الأيسر، وتجلس جدتي قبالته، ويبدآن في افطارهما على نغم العصافير المزقزقة بهدوء، ثم يمسك جدي علبة أدويته، ويبدأ في تحرير الحبوب من قيودها القصديريّة ويتناولها، ثم يعيد الدور نفسه لحبوب جدتي ما بين حبّة ضغط، وسكر، وغدّة، واسبيرين.

ولا يغيبُ عنّي أبداً فطورنا في البيت، فقد كان مقدّساً عائلياً، لا يمكن تركه، أو تجاوزه، أو تخطيه بوجبة الغذاء، فكنّا ننغمس في التحضير، ونتحوقل عند الثامنة والنصف على سفرته.

فنقلي البيض بالبصل، أو نقلي الفلافل، ونضع الجبن، ونسكب الزيت كالماء!

ودوماً ما كنتُ مستعدّا لتفضيل وجبة الفطور على أي شيء، وكنتُ أقع في اختبار الأولويات ما بين محاضرتي الجامعية عند الثامنة، أو الفطور مع العائلة، وكان دوماً ما ينتصر خيار الفطور.

فالفطور لم يكن مجرد طعام، كان ميثاقاً عائلياً، فالقصص البسيطة التي تسمعها وأنت تأكل هي قصصٌ حقيقيّة. وإن مشاركة الطعام مع من تحب كانت حبّاً بوجه آخر.

الفطور كان هويّةً بامتياز، ويدلّ على أصحابه، وحاراتهم، ومخيماتهم، كان لدهاليز بيوت المعسكر الضيقة روائحٌ تعرف لك الطريق. فرائحة المقالي، وتحميص الخبز على كفّ الغاز، ورائحة النعناع الصباحي الراقص في حضن الماء والسكر، وصوتُ الراديو القديم الذي لم تنتصر عليه الحداثة، كانوا يقولون لك أين أنت، وكم الساعة بالضبط.

والفطور الذي كان في الطرقات لا يقلّ ميثاقاً عن فطور السفرات البسيطة، فالسائقون الذين يقضمون سندويشات الفلافل، والطلبة الذين يخرجون باكراً وفي أيديهم شطائر الجبن، وطلبة الجامعات المتراصين على مقاعد ساحاتهم، وعمّال الوطن في زواياهم، وباعة الكعك الذين يسحبون الشمس كل صباح، ورائحة الزعتر العذري المنطلق من مطاحن السوق. كل ذلك لم يكن مجرد فطور، لم يكن مجرد طعام يمضغ، ويبلع، ويهضم، بل كان ميثاقاً، وكان صوت الحياة، كان انتصاراً هادئاً ويوميّاً لصالح الوجود. كان نغم موسيقى لم تُجهِد في عزفها موسيقاراً.

كان الفطور هو القبلة الذي يطبعها الكلّ، وتطبع على كل الوجنات.

والآن وبعد غياب الطعام عن غزة، أفهم جيداً لماذا يجيء الصباح باهتاً، وأفهم جيداً لماذا يسقط الحبّ مجهدا على الأرض، ولماذا يبتعد العجوز بخاطره عنّا، ويذهب بعيداً بعيداً ويُطرِق، أفهم لماذا صار صوت فيروز نشازاً بعد أن كان جميلاً.

إن غزة التي كانت تنسج الصباح بصوف الفطور، وصنّارة البسطاء لا تودّ أن تبصر ما حلّ بها. فأن تسقط المباني أرضاً، وأن يسحق الإنسان، وأن تنقلب الشوارع رأساً على عقب، وأن تشرق الشمس فوق أخاديد الدماء المستمرة، وأن يفقد الأطفال فطورهم، وأن يكون المخيم ذاكرةً لا وجوداً، وأن يغيب الطعام ويجوع الناس حدّ تذويب الملح في الماء، وأن تصليّ أسراب الطيور جنازات خلف جنازات في محراب الأفق، وأن تحوّل موسيقى الزقزقة لنحيب هذا يعني فقدان 'الفطور' بمعناه الوجودي،

إنّ فقدنا لـ'فطورنا' في غزة، ليس هو مجرد فقدان الطعام ومضغ الأحناك المرّة، بل هو شعور العجوز لأول مرةٍ بعمره وكهولته، وشعور جدّتي بمرضها، وبعدد حبّات الدواء وعدم جدواها، وشعور النساء بسخرية الدهاليز منهنّ، وبتغفيل بيوت الصفيح لخواطرهنّ، فهل كان 'الفطور' سلوى الآلام والآن قد غاب فأدركن كم زحف الألم على وجوههن؟

الآن نفقد شعلة الحبّ حقيقةً فنضيعُ على خريطتنا بعدما كنّا ننعطف في الصحراء فيعيدنا الحب وطعم الفطور، ورائحةُ الصباح المتجددة.

الآن انصلب العمال على الطريق، والآن سأل الأطفال: هل يمكن أن يكون 'الموت' طموحاً؟

فليس الجوع مجرد صرخة تطلقها الأمعاء، وليس الفطور مجرد روتين تعتمده البيولوجيا، وليست المجاعة قبرٌ للإنسان فقط، فأن تُجوَّع في بلدك يعني أن تفقد الطريق، أن تضيع على رصيف كنت تمشيه مغمضاً.

فهل صار 'الفطور' فجأةً خائناً، أم صار 'الجوع' جائزاً، أم أنها 'ذاكرتنا' التي تلقمنا الحسرة، وكل العالم بريء؟!

ذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرةذاكرة الفطور بين المجاعة والحسرة

اقرأ ايضا

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق