نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مونديال 2030: هل يحول المغرب حلم الكرة إلى واقع التنمية؟ - بلس 48, اليوم الأحد 20 يوليو 2025 12:05 مساءً
يبدو المشهد واعدًا من بعيد: المغرب يتهيأ لاحتضان أحد أكثر الأحداث الرياضية شهرة وجماهيرية، كأس العالم 2030، بتنظيم مشترك مع إسبانيا والبرتغال. صور الملاعب الجديدة، الخرائط الذكية، والتقارير المتفائلة عن العوائد المتوقعة، كلّها توحي بأن البلاد تدخل مرحلة انتقالية نحو مستقبل أكثر إشراقًا. لكن، وبقدر ما يشبه هذا الحدث لحظة تاريخية، فهو أيضًا اختبار صارم لنموذج التنمية المغربي، وقدرته على تحويل المناسبات الكبرى من لحظات عابرة إلى تحولات مستدامة.
ما يُميّز تجربة المغرب في هذه المحطة أنها تتجاوز حدود كرة القدم. فالمشاريع التي جرى الإعلان عنها، والميزانيات التي جرى رصدها، تكشف عن هندسة اقتصادية ضخمة. استثمارات تقدر بأكثر من 52 مليار درهم، تشمل بناء أكبر ملعب في إفريقيا بسعة تفوق 100 ألف متفرج، وتجديد ستة ملاعب أخرى في مدن كبرى، وتطوير البنية السياحية والفندقية، وتوسيع المطارات وشبكة الطرق والسكك الحديدية، بما في ذلك مدّ خطوط قطار فائق السرعة من القنيطرة نحو مراكش وأكادير. الطموح كبير، وقدرة الدولة على التعبئة المالية عبر قروض وسندات ووعود استثمار خارجي تبدو حقيقية.
لكن، هل يُبنى الوطن على الأضواء وحدها؟ لا شيء يضمن أن المونديال سيكون رافعة تنموية بقدر ما قد يكون لحظة إنفاق كبيرة بلا مردود اجتماعي فعلي. الدروس السابقة من دول مثل جنوب إفريقيا والبرازيل لا تزال ماثلة: ملاعب ضخمة تحولت إلى عبء على ميزانيات الجماعات، وبنى تحتية لم تُستخدم بعد انتهاء الحدث، وأحلام شعبية انتهت بخيبة مزدوجة: ديون من دون تنمية.
نموذج جنوب إفريقيا سنة 2010 يقدّم صورة واضحة للمخاطر المحتملة، حيث أنفقت الحكومة قرابة 3.6 مليار دولار على البنية التحتية والملاعب، لكنها خرجت من البطولة دون أثر اقتصادي ملموس على الفئات الفقيرة، بل على العكس، ارتفعت مستويات الدين العام، واشتدت الانتقادات بسبب تهميش القطاعات الاجتماعية. الملاعب التي كانت من مفاخر البطولة تحوّلت لاحقًا إلى منشآت غير مستغلة أو ما يُعرف بـ"المشاريع البيضاء"، تكلّف صيانتها ميزانيات ضخمة سنويًا، دون مقابل اجتماعي حقيقي.
أما البرازيل، التي نظّمت المونديال في 2014، فقد واجهت تحديًا أكبر رغم كونها دولة ناشئة ذات ثقل اقتصادي. أنفقت نحو 15 مليار دولار، لكن الملاعب الفخمة في مناطق فقيرة مثل ماناوس وبرازيليا تحولت لاحقًا إلى رموز للفشل السياسي، وعنوان لفجوة بين أولويات الدولة وتطلعات شعبها. خرج البرازيليون إلى الشوارع يحتجون، لا ضد كرة القدم، بل ضد ما اعتبروه خداع تنموي باسمها. وبينما تأخرت الإصلاحات في الصحة والتعليم، لم يبقَ من المونديال سوى صور قديمة ولافتات مهترئة.
في المغرب، التحدي ليس فقط في القدرة على إنجاز المشاريع في الوقت المحدد، بل في كيفية ربطها بحاجة المواطنين اليومية. حين تُستثمر مليارات الدراهم في ملاعب ضخمة، فيما لا تزال مستشفيات كثيرة في المدن الصغرى تعاني من خصاص فادح في الأطر والأجهزة، فإنّ سؤال الأولويات يصبح سؤال سياسي لا تقني. وحين يُطلب من الشعب التصفيق لملاعب عملاقة، في الوقت الذي يواجه فيه شباب الأحياء الهامشية انسداد الأفق، فإن الرهان على اللحظة الرياضية يصبح محفوفًا باللاعدالة.
ثم إنّ تنظيم كأس العالم لا يعني فقط جذب الزوار، بل يعني أولًا وأساسًا الاستعداد لاستقبال الذات في المرآة. هل نملك منظومة مؤسساتية قادرة على تحويل هذه التظاهرة إلى فرصة لإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني؟ هل نحن مستعدون فعلاً لتوزيع المنافع على كل الجهات، وليس فقط على محور الدار البيضاء–الرباط؟ هل البنية الاجتماعية للمغرب مؤهلة لتوسيع الاستفادة من هذه اللحظة، أم أننا نسير نحو مضاعفة الفوارق المجالية والاجتماعية، عبر استثمارات تتركز في المركز وتُقصي الأطراف؟
الإشكالية الأعمق ليست في البنية المادية، بل في البنية السياسية والبيروقراطية التي تدير هذا التحوّل. فكم من مشروع واعد انطلق بتمويل كبير، وانتهى بتقرير من مجلس الحسابات؟ وكم من مناسبة دولية تحولت إلى واجهة رمزية أنيقة، بينما لم تتغير شروط العيش الحقيقي للمواطن المغربي؟ المطلوب اليوم ليس فقط ملعب دولي بمواصفات "فيفا"، بل منظومة عدالة ترابية واجتماعية تضمن أن لا تُنظم الدولة لأجل الخارج وتُقصي الداخل.
من حق المغرب أن يحلم، ومن حقه أن يروج لصورته الجديدة أمام العالم، لكن ما لا يمكن القبول به هو أن يتحول هذا الحلم إلى مشروع رمزي ضخم يغيب فيه الإنسان. المواطن المغربي لن يهمه كثيرًا عدد الكاميرات في المدرجات، بقدر ما يهمه أن يجد حافلة نظيفة وآمنة، وطبيبًا في مستشفاه المحلي، وأستاذًا في مدرسة ابنه. وهنا يكمن جوهر التحدي: أن يتم التفكير في ما بعد المونديال منذ الآن، لا بعد أن يرحل الضيوف.
الأمر لا يتعلق بالتشكيك، بل بالتحذير من الوقوع في فخّ النشوة المؤقتة. فكل استثمار كبير يطرح سؤال الكلفة، وسؤال العائد، وسؤال الأثر. والمجتمع المغربي، الذي أبان عن قدرة مذهلة على الالتفاف حول منتخب بلاده في مونديال قطر 2022، يستحقّ أكثر من مجرد لحظة فرح. يستحقّ سياسة عمومية تُراكم على هذا الوعي الجماعي، وتحوّله إلى فرص حقيقية في التعليم، والشغل، والخدمات، والكرامة.
قد يكون المونديال فرصة لتجديد العقد الاجتماعي، ولبناء لحظة ثقة بين المواطن والدولة. لكن ذلك لن يتم من خلال الملاعب وحدها، بل من خلال وضوح الرؤية، وشفافية الإنجاز، وتوزيع المنافع بعدالة، وإدماج الجهات المهمشة في القرار، وتجاوز منطق "الواجهة" نحو منطق "العمق". ولا ضير في أن تُنظم التظاهرات العالمية، بل العيب أن تُنظم بينما تظل الأسئلة الجوهرية للمواطن بلا إجابة.
لقد ولّى زمن التنظيم لأجل التنظيم، وأصبح زمن الجدوى والعمق. والعالم لن يتذكر عدد الكرات التي دخلت الشباك في ملعب بنسليمان الجديد، لكنه سيتذكر، ومعه المواطنون، إن كان هذا الحدث نقطة تحوّل، أم لحظة انبهار قصيرة في كتاب طويل من الإخفاقات المؤجلة.
0 تعليق