امتياز حضاري.. وسقوط اختياري! - بلس 48

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
امتياز حضاري.. وسقوط اختياري! - بلس 48, اليوم السبت 19 يوليو 2025 08:50 صباحاً

يخطئ كل من يعتقد أن الآية الكريمة «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»، حصرًا على ماضٍ زمني، أو أنها ستظل امتيازًا تتوارثه أجيال الأمة الإسلامية، خاصة عندما يتناسى البعض أن التفضيل يحكمه السلوك الجماعي، والعمل المشترك للأمة، كي يعزز: التزامها، يقظتها، بصيرتها، استنارتها، وعيها، نهجها، اصطفافها، وحدتها، موقفها، صمودها، قوتها، وحسمها، وأن تحقيق المكانة واستمراريتها مشروط بـ«تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ»، عبر تحويل هذه القيم من مجرد نصوص محفوظة إلى سلوك يومي، وإرادة سياسية، ومشروع حضاري جامع.

المسألة، تبدو أكبر من اختزال هذه الشروط في ضوابط دينية، كما أن الحديث عن «خيرية الأمة»، ومقامها، على أساس الانتماء البيولوجي والاصطفاء العرقي، وليس وفقًا لموقفها مما يجري حولها، وما يجري داخلها، يبدو كارثيًا، ويستحق إعادة التذكير، ليس من قبيل «الاستشياخ الشخصي»، بل بخطورة «الشيفونية» التي تعتمد على التعصّب الأعمى أو الانحياز المفرط لمعتقدٍ معين، فهذا النهج الضيق يعوق رؤية صاحبه، ويجعله يُقصي ويزدري كل ما سواه، وإذا تبنّتها شريحة، فإنها ترى كل ما عدا دينها أو مذهبها باطلًا أو ضلالًا.

هنا، نصبح أمام جماعات ترفض التعايش وتعادي الحوار، تلجأ إلى التكفير، وتعزّز خطابها بالتخوين، وفي الحالتين يتأكد غياب الموضوعية، ويتعطّل العقل، فتنشأ بيئة ثقافية خانقة، تقتل الإبداع، وتصادر السؤال، وتبني جدارًا بين النص ومقاصده، وبين الواقع وضروراته، فيصبح الحديث عن «خَيْرَ أُمَّةٍ» نوعٌ من الترف العاطفي، أو النفاق الجمعي.

امتياز «خَيْرَ أُمَّةٍ» قابل للذم إذا تم الانتقاص من شروطه، وإذا اختارت الأمة أن تتخلى عن وظيفتها طوعًا، أو كسلًا، أو مسايرةً لعصر التلاشي، وهنا نكون أمام إشكالية كبرى لا تتعلق بالنص، بل بمن حوّلوا «الخير» إلى حكاية من الماضي، أو شعاراتٍ يزينون بها الخطب الجوفاء، دون أن يدفعوا ضريبة هذه القيمة في مجالات السلوك العام، الذي يبدأ من الفرد، لكنه لا يكتمل إلا حين يصبح ثقافة عامة، تتجلى في الإدارة، والتعليم، والعدالة، وحرية الضمير.

الانتماء إلى الأمة الإسلامية تكليفٌ مستمر، لا يسقط بالتقادم، ولا يتحقق بالتغنّي، بل يتم اختباره في كل مشهد، وكل موقف، وكل لحظة تقف فيها الأمة بين خيارين: الخضوع أو النهوض، المسايرة أو المقاومة (لا أقصد المقاومة على الشاشات، علنًا، والتنسيق مع العدو سرًّا)، وحين تختار معظم الأمة أن تنكمش على ذاتها، وتؤثر السلامة على المواجهة، والمهادنة على المجابهة، فإنها (وإن ظلّت على قيد الوجود)، تفقد المكانة اللائقة بها، وتتحول إلى كيان وظيفي بلا مشروع، بلا رؤية، بلا أثر، حينها، تصبح مجرد طرف في معادلات الآخرين، لا تملك حق التعديل، ولا حتى حق الاعتراض، إلا بما تسمح به مصالح الأقوى.

يتغاضى البعض عن النصّ المقدّس، الذي كان موضوعيًّا، وهو يفرّق بين مفهوم «الخيرية» و«الأفضلية» المطلقة، تاركًا الباب مواربًا للتحسين الدائم، والحرص على أن تكون النتائج متوافقة مع الأعمال، وهنا نصبح أمام سؤال مهم: هل لا تزال الأمة الإسلامية شهيدةً على الناس، ومؤتمنةً على القيم؟ هل تعي، كما كانت، موقعها بين الأمم؟ أم أنها استبدلت التبليغ بالانكفاء، والبصيرة بالهوى، والحسم بالتردد والصراعات البينية، والتماهي مع الخصوم، ومدّ الجسور مع الأعداء، على النحو الذي تشهده منطقتنا خلال الـ20 عامًا الأخيرة؟ وهل ما زالت تملك جرأة الاحتكام إلى ضميرها الأخلاقي، أم باتت ترى في موازين القوى مرجعها الأول والأخير؟

من خلال متابعتي للسياسة الإقليمية- الدولية، طوال أكثر من 30 عامًا، لم تكن الخصومات في الشرق الأوسط يومًا بسيطة أو مباشرة، لكنها خلال العقدين الماضيين، تحديدًا، أصبحت أكثر تعقيدًا وتقلّبًا، وبعدما كانت خطوط العداء واضحة بين دول بعينها، أو تكتلات هامشية، كالصراع بين ما يُسمّى إعلاميًّا بمحوري «الاعتدال» و«الممانعة»، دخلت على الخط عوامل جديدة أعادت تعريف الخريطة الجيوسياسية على نحو زادها غموضًا: من مع من؟ ومن ضد من؟ ما حدود الصداقة؟ وما طبيعة العداء؟ ولماذا كل هذا؟

أصبح العدو، حاليًا، ليس فقط من يحتلّ الأرض، بل من يخترق الوعي، ويشكّك في القناعات، ويزيّف الأولويات، حتى يستنزف الدول المستهدفة دون طلقة واحدة. وقد تبدّت الصدمة الأكبر منذ عام2003، فالمنطقة تعيش موجة انقسامات داخلية، وتحولات إقليمية مزّقت المُمزّق، وفخّخت المُفخّخ، التحالفات القديمة تفككت، وأنتجت خصومات «عائمة» تتبدّل حسب الظروف والملفات.

تحوّلت الخلافات من صراع بين دول إلى صراعات داخل الدول، ثم إلى صراعات عبر وكلاء يتآمرون على كل الدول، وبدلًا من المواجهة المباشرة، باتت دول الإقليم تدير عداواتها عبر أطراف ثالثة، أو عبر أدوات: الإعلام، الاقتصاد، والحرب السيبرانية، ولم تعد الخنادق تُحفَر على الأرض، بل يحفرها أعداء المنطقة في الوعي، وبدلًا من أن تصبح أدوات العولمة و«إعلامها الجديد» جسرًا للتواصل، وتعزيزًا للتعايش الإنساني بين الأمم، إذا به يعبّر عن أهداف صنّاعه، ويُوظَّف في الصراع الحضاري.

وسط هذا «السيرك» المنصوب، تتقارب عواصم كانت حتى الأمس القريب على طرفي نقيض، بينما يتصاعد التوتر بين حلفاء سابقين لأسباب ظرفية، كالمصالح في أسواق الطاقة أو تباين المواقف تجاه ملفات إقليمية (النووي الإيراني، حرب اليمن، والمأساة السورية نماذج). لكن لا التقارُب الهش، ولا التنازلات المزرية، تنقذ مواقف، فيما اتفاقات التطبيع مع إسرائيل تعبّر عن تراجع الخطوط التقليدية للخصومة والعداء. وعليه، يزيد تفاقم المشهد الإقليمي، ويصبح أكثر ضبابية، وأصعب في التنبّؤ.

وأمام هذا المشهد المتقلّب، أصبحت العلاقات في الشرق الأوسط أقرب إلى «مناورة مفتوحة»، بينما هي مواجهات «صفرية»، خاصة أن الدول (أو ما تبقّى منها) أصبحت تنسج علاقاتها وفقًا لحسابات متغيّرة تتعلّق بالأمن والاقتصاد، وليس فقط بالأيديولوجيا أو الثوابت التاريخية. وهكذا تُختزل القيم في مصالح، وتُفصَّل المبادئ على قياس التحالفات، حتى غابت البوصلة، وانطفأ الضمير السياسي.

وفيما حال الأمة كذلك، فاقدة للقدرة على الأمر بالمعروف، وتستبدل النهي عن المنكر بالتماهي معه، وتحوّل الإيمان إلى شعارات سياسية أو خطاب تنظيمي (تتبنّاه جماعات الإسلام السياسي، منذ عقود) لدغدغة مشاعر البعض، والإيقاع بهم في الفخ، فإن ما تفخر به «خَيْرَ أُمَّةٍ» يتحوّل إلى سؤال معلّق، وإلى شبهة لا يمحوها إلا موقف جاد، ويقظة واعية، تساعد هذه الجموع على النهوض الحضاري، والاستنارة العقلية، بالموقف الذي يترجم العقيدة إلى أخلاق، لا بانفعالات مؤقتة، أو شعارات لا تُغني ولا تُسمن، تستخدمها جماعات وكيانات أحيانًا كصكوك غفران سياسية، ترفع من تشاء وتسقط من تشاء!

هنا، لا بدّ أن نكاشف من حولنا: أنتم تعيشون واقعًا تتسارع فيه موجات التفكك، وتتآكل فيه الوظيفة الحضارية للأمة، وبالتالي تُصبح الأركان التي تحاولون الاختباء خلفها مجرد بقايا خِطابة أو تلاوة، في زمن لم تعد فيه الطاعة للمعنى، بل للسلعة، ولمن يمتلك ماكينة التأثير، حتى لو كان عدوًّا للحق والعدل. وبينما تختزلون المكانة في ماضٍ غابر، تنتحبون على أطلاله دون سعيٍ جادّ لاستعادته، فلا خير فيكم، ولا مكانة لكم، كون الشرف القرآني مشروطًا بالنظري والعملي، معًا.

***

حتى المعاني الكبيرة، حوّلتها جماعات الإسلام السياسي مصدرًا لـ«السخرية»، على غرار مشروع «طائر النهضة» (بذيله، ورأسه، وجناحيه، وريشه، وفق خطابهم المُعلَن)، فيما هم يتآمرون على الوحدة كشرطٍ للنهضة، منذ تأسيس الجماعة عام ١٩٢٨. فأصبح الاصطفاف غنيمةً للمتصارعين، والموقف الذي كان عنوانًا للمروءة يُفصَّل على مقاس المصالح الضيّقة، والوعي الجمعي تحوّل، في بعض جوانبه، إلى صدى لآلة إعلامية تقيس التأثير بـ«الترندات» و«اللايكات».

وفيما جغرافية المنطقة تتمزق تحت القصف والحصار، يسير خطاب «خَيْرَ أُمَّةٍ» في اتجاه آخر. وفي أكثر اللحظات مأساوية، لم نرَ اصطفافًا يوازي حجم الخطر، ولم نلمح حسمًا يليق بالجرح الغائر، كأنّ التفاعل الرقمي بات بديلًا عن الفعل السياسي، وكأنّ التغريدات قد تُغني عن المبادرات، أو تُكفّر عن عار الصمت.

من هنا، يتراجع خطاب التعبئة أمام خطاب التعزية، كأنّ العجز أصبح منهجًا، وكأنّ السقوط خيارٌ لا مفرّ منه. بالمناسبة، هذا ليس جلدًا للذات، بل تذكيرٌ أخير يحاول تجاوز ما فات، حيث لا تزال هناك بقية، ولا تزال هناك أرواح تقاوم، وعقول تضيء، ومواقف تُكذّب مشهد الانهيار الشامل، بقية تحفظ الأمة في معادلة الإمكان، وترفع عنها شبهة الخروج النهائي من التاريخ.

يكفي الاصطفاف خلف مصر، وشعبها العظيم (الذي قاوم حقيقة أخطر فصول التآمر).

ما يحدث في مصر، منذ صيف2013، يستحق البناء عليه، لا التآمر ضدّه، ليس فقط لأن مصر، من الماضي البعيد حتى الحاضر القريب، صمّام أمان الأمة، وباعث نهضتها، بل لأن تأمّل السلوك العام لأجزاء كبيرة من الأمة يُؤكّد أنها تخلّت (أو كادت) عن نهجها، وضاعت بوصلتها، واستبدلت الانحياز إلى المظلوم بالتماهي مع الظالم، وتحوّل الاصطفاف إلى صراع طائفي، أو ولاءٍ عرقي، بعدما فرّطت شعوبٌ في الاستقرار، وتماهت أنظمتها الجديدة مع الأشرار، يحملون معاول الهدم التي تستهدف البناء والإعمار.

إذن، استعادة المكانة، وتجديد شروط «خَيْرَ أُمَّةٍ»، لا يتمّان عبر التمنّي، أو بالتحسّر على الماضي، بل بالشروع في بناء وعي تدريجي يبدأ من أصغر الدوائر، ويتمدّد، مهما ضاقت السُّبل، فلا الأعداء، ولا الخرائط الممزّقة، ولا التشتّت الجماهيري، يُعفون الأمة من مسؤولية العمل على إعادة تشغيل وظائفها الأخلاقية والعقلية. فالمهمة تبدأ من النخبة الواعية التي تحرّك الطاقات الخاملة، وتستنهض العقول، وتصوغ خطابًا جديدًا يتجاوز الصدام المجّاني أو الاستسلام للواقع، نحو فعلٍ مقاومٍ، هادئٍ، متدرّج، لا يتوقف عند تشخيص الانهيار، بل يسعى لترميم ما تبقّى.

تفعيل شروط النهوض لا يعني انتظار سقوط الأنظمة أو تغيّر التحالفات الدولية، بل البدء بما هو ممكن: تأسيس شبكات وعي في ساحات التعليم والإعلام والثقافة، وتطوير منظومة أخلاقية تتجاوز المذهبية، وتعتمد على فكرة الأمة الجامعة لا الطائفة الغالبة. الانطلاق من المجتمع إلى الدولة، من المبادئ إلى السياسات، من الفكرة إلى الممارسة، هو السبيل الوحيد لاستعادة الدور الحضاري المفقود.وإذا كانت الشعارات لا تبني نهضة، فإنّ الفعل المتراكم، الواعي، المستند إلى القيم، كفيل بأن يُعيد للأمة دورها، لا بقرارٍ سياسي، بل بإجماعٍ روحي وعقلي لا يُصادره سلطان، ولا تُطفئه العواصف.

يا «خَيْرَ أُمَّةٍ»، هذا ليس وصفًا أبديًّا، بل نداءٌ متجدّد لكل من لديهم القدرة على التمييز، على الانحياز لما يجب، لا لما يُفرَض. وحتى لا تبقى الأمة معلّقة في الهواء، فالشروط ملزمة: إيمانًا، فعلًا، اصطفافًا، ووعيًا. ولأنه «وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، فالمكانة الضائعة ستعود أقوى ممّا كانت، بصفاء النوايا، وصدق العمل، وتجدد العهد، الذي لا يُصان بالشعارات، بل بالتكاليف، ولا تُنال الكرامة بالأمنيات، بل بثمن الحصول عليها، وتعزيزها.

المستقبل ليس لمن يملك السلاح والعلم فقط، بل لمن يملك الرؤية، والإيمان، والحسم. وكما تُولد الأمم من فكرة، تموت أيضًا بالتفريط فيها، و«خَيْرَ أُمَّةٍ» لا تصمد إذا ماتت الروح، وتحوّل الإيمان إلى ذكرى، والرسالة إلى طقس موسمي، وعندها، نكون قد تعمّدنا تضييع الأمانة، بينما الخيار في أيدينا: فهل نرضى أن نكون حكاية من الماضي؟ أم نبادر بإعادة تأكيد مكانتنا عبر الأخذ بأسباب القوة؟ هذا الخيار، ليس نداء نخبة، بل استدعاء ضمير أمة كاملة، أن تقف على أطراف الهاوية، ثم تقرّر أن تعود للحياة، لا أن تسقط في التاريخ.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق